أكملت طالبان الواحد والعشرين عاماً من الغياب في الأرياف والكهوف الأفغانية، وعادت كما غادرت، بقدر أكبر من السيطرة على الأرض، حيث يرجح المحللون الأفغان أن العودة الثانية لن يطول أمدها وفق المتغيرات الجيو- ستراتيجية الأمنية العالمية التي لن تقبل بوجود نظام كطالبان يسيطر على أفغانستان ويواجه العالم بتعنته وعناده. عشرون عاماً شهدت حروباً وتحولات هائلة، فكاتب هذه السطور دخل إلى إفغانستان لأول مرة، إبان الغزو السوفيتي لأفغانستان، واستمر في زياراتها خلال الخمسة وثلاثين عاما الماضية بانتظام، كون أفغانستان في تلك الحقبة كانت بؤرة الأحداث العالمية ولا أريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، فقد قررت واشنطن أن تطوي هذه الصفحة؛ قبيل عام وعلينا أن نلغي 20 عاماً من أعمارنا، وهذا ما قرره جو بايدن الرئيس الأميركي على حين غرة. ما فعلته طالبان في أفغانستان في 2016 أو في الفترة 2021 و2022. في بلد مثل أفغانستان، كانت خاضعة عسكريا للولايات المتحدة منذ 20 عاما، فإن أجهزة الاستخبارات لا تمارس جهدا استخباراتيا وتجسسيا فحسب، بقدر سعيها لتحليل وتقييم الكم الهائل من المعطيات والمعلومات المتوفرة بين يديها، وهي غالبا ما تكون مؤلفة من أرقام وإحصائيات مصنفة متعددة. ولأجل ذلك ظنت الاستخبارات الأميركية استحالة سقوط 300 ألف جندي ورجل أمن أفغاني أمام 60 ألف مقاتل من طالبان بهذه السرعة. ومن الواضح أن استخبارات الدول المجاورة لأفغانستان التي يوجد لها موطئ قدم في داخل العمق الأفغاني، كانت ترغب في أن تكون البديلة للولايات المتحدة في ظل الفراغ الأمني الذي تركه الانسحاب الأميركي في أفغانستان. ففي الوقت الذي تحركت فيه الهند وروسيا وباكستانوالصينوإيران ودول آسيا الوسطى وهي الدول المحور والمعنية بالشأن الأفغاني الأمني، لرسم معالم الخريطة الجيوسياسية في مرحلة ما بعد الانسحاب والتعامل مع الهاجس الأمني، وتخوفات هذه الدول من إعادة تموضع داعش والقاعدة في أفغانستان، لتطوير استراتيجية إقليمية مشتركة، حول التعامل مع التحديات، الناجمة عن الأحداث، التي تتكشف في الدولة التي دمرتها الحروب لتعزيز مفهوم تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الدول ذات المصداقية العالية خصوصا بعد تعرض الأجهزة الاستخباراتية الأميركية للتضليل العجيب الغريب، كونها لا تدرك الوضع داخل أفغانستان بشكل صحيح خصوصا أن المعلقين الأميركيين رصدوا مجموعة التوجهات المتشابهة في تقييمات الاستخبارات الأميركية بين أفغانستان والعراق، حيث "فشل المشروع الأميركي في كلا الدولتين بسبب ذلك". لقد سئمت أفغانستان من البقاء ساحة لحروب الوكالة، لأجل المصالح والنفوذ بين القوى الكبرى، وجنح اللاعبون الدوليون والإقليميون، لاستقطاع كعكة من أفغانستان وباشروا دبلوماسيتهم الاستخباراتية الرمادية عبر التنسيق الحذر غير المباشر والمباشر مع طالبان بشأن مستقبل العلاقات خلال المرحلة المقبلة، بمنأى عن ضجيج الدبلوماسية ولهيب الإعلام، بغية مواجهة التهديدات القادمة من أفغانستان، وإرساء السلام في أرجائها، حتى لا تتسلل أصداء اضطراباتها إلى دول الجوار الإقليمى. ويرجح خبراء فرضية الرهان الصيني على دور باكستاني - صيني داخل أفغانستان، وأدركت بكين لمخططات واشنطن الهادفة لمحاصرتها، عن تنويع خياراتها في أفغانستان ولم تتورع باكستان، المتطلعة إلى الاستعانة بطالبان في تأمين عمق استراتيجي ضد التهديدات الهندية، المنبعثة من استخدام دلهي لأفغانستان كنقطة انطلاق لزعزعة استقرار باكستان من خلال تمويل وتسليح الجماعات الانفصالية البلوشية وبعض فصائل طالبان الباكستانية، عن مساعدة طالبان البشتونية، وفتح الباب أمام استثمار تقاربها مع الصين لكبح جماح الدور الهندي المتنامي في أفغانستان والإقليم برمته. في المقابل، تخشى دلهي أن تصبح أفغانستان تحت حكم طالبان، شريكا لباكستان في استخدام الجماعات الإرهابية كرأس حربة ضدها، ونتيجة التحولات الاستراتيجية ظهرت دبلوماسية الباكستان بقوة في وضح النهار. ومن المؤكد، حسب مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، أن تفضي هيمنة طالبان على السلطة بأفغانستان إلى تعاظم مخاوف الهند بشأن الإرهاب العابر للحدود. وببالغ قلق، ترقب الهند شراكة الصين الراسخة مع باكستان، التي تتمتع بصلات وثيقة مع طالبان، بما يعزز فرص ونفوذ الصين في أفغانستان. بيد أن الأمور تبقى مرتهنة بفرص تحقق السلام والاستقرار في أفغانستان، والتزام طالبان بتعهداتها المتعلقة بالنأى بنفسها عن مخططات الحركات بمنطقة شينغ يانغ المضطربة داخل الصين. ومنذ أحداث 11 سبتمبر 2001 إلى منتصف شهر اغسطس 2021، والولايات المتحدة الأميركية تطارد الأشباح في أغوار أفغانستان وتقصفهم جوّا، وتحاصرهم برّا وتجتهد لتحقيق عدة أهداف استراتيجية منها، القضاء على بؤرة الإرهاب العالمي (فأفغانستان كونه مهد تفريخ الإرهاب منذ حادثة البرجين)، بناء جيش أفغاني قوامه 300 ألف مقاتل يحل محلّ الجيش الأميركي. ويكون مواليا لها، تأسيس دولة مدنيّة ديموقراطية يوضع على رأسها "بريمر جديد". يخدم مصالح من نصبوه رئيسا في قصور كابل. هذه الأهداف لم تحقق وخرجت واشنطن من أفغانستان بخفي حنين. أفغانستان جغرافياً دولة حبيسة تحيط بها باكستان، إيران، تركمانستان، أوزباكستان، طاجيكستان، والصين، وليس لها أي منفذ بحري يسهل لها التنفس سياسياً بحرية بعيداً عن المرور بدولة وسيطة من جيرانها، وهي دولة ذات تضاريس وعرة تصعب أي شكل من المغامرة العسكرية فيها، وقد حمل التاريخ الأفغاني مشاهد مختلفة ساهمت في حدوث صعود أو هبوط سياسي حاد في مراحل مختلفة من تاريخ أفغانستان، حتى أنه أطلق عليها مقبرة الإمبراطوريات، ولكن في العام 1979م، حدث تحول مهم في أفغانستان التي شهدت استقراراً طويلاً إبان حكم الملك ظاهر شاهبين عامي (1933-1973)، ولكن الأمور تغيرت وتدخل الاتحاد السوفيتي، ولكن في النهاية خرج منها مهزوماً في العام 1989م. الخبراء الأميركيون من جهتهم لا يستبعدون أن يتصدّر التوافق الإقليمي والدولي على دعم استقرار أفغانستان في المستقبل كونه لا يوجد ثبات في السياسة، ومنع أن تكون مغناطيساً يجذب الجماعات الإرهابية، لكن التنافس والصراع بين اللاعبين سيبقى موجوداً، وسيتحرك هؤلاء للبحث عن خيارات بديلة لتوسيع هوامش مصالحهم ومكاسبهم، وسيتضح المشهد شيئاً فشيئاً عن لاعبين أساسيين وآخرين ثانويين أو وكلاء. ورغم تردي اقتصاد أفغانستان وتزايد معدلات الفقر، لا يزال المجتمع الدولي منقسما حيال تقديم المساعدات خشية أن يؤدي ذلك إلى تقوية حركة طالبان. وتثار تساؤلات عمَّ سيحمله عام 2022 لهذا البلد الفقير الذي مزقته الحروب. رغم كل الصعوبات التي واجهها المجتمع الدولي في العقود الماضية بسبب تعقيدات الأوضاع السياسية والعرقية وتفاقم الأوضاع على الأرض، إلا أن المجتمع الدولي أخفق في دعم الشعب الأفغاني إنسانيا وإغاثيا وتنمويا الأمر الذي أدى لتعاظم الأزمة الإنسانية والاقتصادية، التي تسببت بالفعل في أضرار جسيمة للملايين، لم تنحسر، ومن المتوقع أن تتفاقم بشكل أكبر بسبب توقف المساعدة الإنمائية الدولية وتجميد الأصول الأفغانية في الخارج. ويتحمل المجتمع الدولي مسؤولية ضمان أن يحصل الأفغان على الضروريات الأساسية للحياة بأكبر قدر من الاستعجال، بما في ذلك الغذاء والماء والتعليم وسبل العيش والمسكن الآمن وضمان وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين جميع الإقليم بشكل عادل وعاجل وهم في أمسّ الحاجة إليها. دعم المبادرات المستمرة للقياديات والمفكّرات الأفغانيات، وكذلك مجموعات المجتمع المدني، ومعالجة الأزمات الإنسانية الحالية التي يواجهها الشعب الأفغاني اعتماد تدابير من شأنها أن تمهد الطريق لتعافي اقتصاد أفغانستان، والتعامل مع الأزمة الإنسانية في أفغانستان أولا، خاصة وأن الشعب الأفغاني بدأ في فقدان الثقة في المجتمع الدولي. أخيرا كل الخيارات مفتوحة وكل الاحتمالات قابلة للتحقق، فهشاشة أفغانستان وتاريخها الطويل مع الصراع لا يمكن التنبؤ بمنتجاته. مأساة مطار كابل مشهد لن ينساه التاريخ طفل هارب من جحيم الحرب الأفغانية