توج البوكر هذه الرواية للكاتب الليبي محمد النعاس، وهي الإنتاج الروائي الأول للكاتب؛ تقع في مائتي ورقة، مسرح الأحداث ليبيا في زمن التحول من فترة الحكم الملكي الذي نشأ فيه والد البطل، وفترة ما بعد الحكم العسكري الذي عاش فيه بطل الرواية وأقرانه، ويحكي النعاس من خلال وقائع روايته الكثير من التحولات في النسق الديني والتراكيب الاجتماعية، والاقتصادية. يعيش ميلاد في منزل أسرته البسيطة وحيدا بين عدد من الأخوات، يعلمه والده صنعته كخباز، ويعاني الأب من تأثر ابنه الوحيد بالطباع النسائية، فيكتسب الصبي كثيرا من الخصائص النفسية الأنثوية كالمرونة النفسية، والنفس الطويل، مما يجعله يبرع في صناعة كل ما يختص بالمرأة ويبرع في حرفة والده. يقع ضحية لعدم تقبله للمفهوم الاجتماعي للرجولة الذي يفرضه عليه أقرانه، في العائلة والمجتمع، يصاب بحالة قوية من التشتت بين ما يريد أن يكون وما يدفعه المجتمع لأن يقوم به كرجل، يخوض التجربة العسكرية الإلزامية متأملا بأن يخرج منها بشخصية تساعده على اكتساب القالب الرجولي كما يصفه مجتمعه، ويستمر في حياته كيفما أخذته الأقدار لا يخطط لشيء ولا ينتظر شيئا، يتحول ببطء إلى مدبر لمنزله، ويكتفي بأن تقوم زوجته بالعمل والإنفاق عليه، ويقوم هو بأدوار اختصت المرأة بها في المجتمعات العربية، ورغم ما يملكه من مؤهلات النجاح يظل منزلقا بدون طموح في حالة ارتهان نفسي، يستحضر كل العنف النفسي والجسدي الذي عانى منه في خوض تجربته مع محيطه، ويقع في صراع بين شخصية تعيش وفق قناعاتها، وبين عقدة الولاء لقانون الأقران الذي يحاول المشاركة فيه، ولكن الشعور بالنقص يقتله ببطء. الشخصيات الثانوية في القصة رغم تداخلها في حياة البطل بشكل قوي، إلا أنه لم يعمق تصوير أبعادها الجسدية والنفسية بشكل يتناسب مع قوة تأثيرها، فزينب تمثل حب حياته والمرأة الطموحة المستقلة، ويقضي أسطرا طويلة من الرواية في وصف قصتهما معا، ولكنها تطل من بُعد واحد داخل ضمير ميلاد فقط، والعبسي هو ابن عمه الذي يصور الذكر المتبجح المتآلف مع القانون الاجتماعي، والذي يمسك ميلاد من اليد التي توجعه دائما، أيضا لم يرسم معالمه لخيال القارئ بشكل جيد. نهاية الأحداث غير متوقعة، من تحت أنقاض شخصية محطمة يخرج الرجل الذي صنعه الحشو الاجتماعي ويقطع الأحداث بوتيرة سريعة ثم يفيق من حالته الهستيرية فيعود لينكر نفسيا ما فعل، وينساب في شخصيته الطبيعية المعتادة. نهاية الرواية ستعود بك نحو الورقة الأولى، ومداولة فصول الرواية بين الماضي والحاضر هي الطريقة التي اعتمد عليها الكاتب في بناء روايته، وقد تكون هذه الطريقة منسجمة مع نمط الشخصية المشتتة للبطل، ستجد الكثير جدا من التفاصيل التي لا تصل بك إلى شيء بقدر ما تصف حيرة الخباز ميلاد، وشدة ميله للابتعاد عن الصدامات مهما كلفه ذلك. اللغة بسيطة وجميلة وفيها يبرز المفردات والأمثال الشعبية الليبية، والفنون الموسيقية الهجينة التي طغت خلال فترة منتصف السبعينات والثمانينات في المغرب العربي ولها شعبية كبيرة بين أبناء تلك الأجيال. يعيد هذا العمل للمشهد مأساة المرأة العربية اجتماعيا واقتصاديا، ومأساة التحول من نمط ربة المنزل إلى نمط عنصر الإنتاج المستقل، ويشاء القدر أن يفجع الشارع العربي بعد فوز الرواية بوقت قصير بجرائم قتل متتالية لنساء عربيات في عدة دول عربية، المجرمون مختلفون، والدوافع مشتركة، لقد أحسن النعاس تصوير جذور الدوافع الثقافية المسوغة للعنف الممارس ضد المرأة والرجل في المجتمع العربي المتمسك بنعش العالم القديم.