إذا كانت الرواية الخليجية بدأت بالظهور منذ منتصف القرن العشرين، وواكبت ايقاع التطور الاجتماعي في تلك المنطقة ببطئه وسرعته، فإن ظهورها كفن ناضج مستقل تأخر حتى العقود الثلاثة الأخيرة من ذلك القرن كما يشير عبدالحميد المحادين في بحثه "جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية" الذي عرضنا له في "الحياة" في حينه. وفي العقدين الثامن والتاسع من القرن العشرين تبلورت تجربة من أهم التجارب الروائية في الخليج العربي هي تجربة الروائي الكويتي اسماعيل فهد اسماعيل الذي استطاع بفضل تلك التجربة تبوّء مكانة بارزة في الرواية العربية. وهذه التجربة يضيئها الباحث الأردني عمر صبحي محمد جابر في بحثه "البنية والدلالة في روايات اسماعيل فهد اسماعيل" *، فيبدّد بعض سدول العتم التي أرخت على الروائي، ويضع تجربته في الموضع المناسب على خريطة الرواية العربية، جنباً الى جنب الروائيين العرب الآخرين: فكيف يفعل الباحث ذلك؟ وما هي مجالات البحث الذي يقع في مقدمة وبابين وخاتمة؟ يشير جابر في المقدمة الى أهمية تجربة اسماعيل الروائية ويعتبره المؤسس الحقيقي لفن الرواية في الكويت. وبعد عرض سريع للدراسات والمقالات التي تناولت هذا الجانب أو ذاك، يستخلص "أنه لم تفرد لروايات اسماعيل فهد اسماعيل دراسة شاملة واعية تتناوب الجوانب الشكلية والمضمونية"، ولعل هذا ما حدا به الى تنكّب هذه المهمة، فحدّد هدفه بدراسة تسعى الى "اعطاء صورة كاملة مفصّلة متأنية عن روايات اسماعيل فهد اسماعيل شكلاً ومضموناً"، وحدّد الوسيلة بمنهجٍ يقوم على: عدم الاهتمام بحياة الكاتب، والانطلاق من العمل ذاته، والإفادة من مناهج عدّة. فالعمل يفرض المنهج المناسب... وانطلق نحو هدفه المزدوج فتناول المضامين في الباب الأول، والبناء الفني في الباب الثاني. وبولوجنا الباب الأول نرى ان الباحث يرصد في الفصل الأول المضمون السياسي للروايات ببعديه القومي والوطني، متناولاً كل رواية على حدة تبعاً لتاريخ صدورها. وهو، الى هذه الملاحظة المنهجية، يورد ملاحظات منهجية اجرائية أخرى تكشف آلية الدراسة وكيفية تعاطيها مع الروايات المختلفة، فيجمع بين النظري والتطبيقي. وقد تمخّضت عملية الرصد هذه والمنهج المتبع فيها عن نتائج تتعلق بالمقول في كل رواية، وهذا المقول هو: علاقة الفرد بالسلطة، القائمة على الهروب السياسي والتيه وعداء الأنظمة في "كانت السماء زرقاء"، وتأصّل الاضطهاد السياسي في ثقافة العربي في "المستنقعات الضوئية"، والإمعان في انتهاك شخصية الإنسان في "الحبل"، وتحوّل المقاومة من فعل فردي الى فعل جماعي في "الضفاف الأخرى"، واضطهاد الإنسان الفلسطيني ونضاله في "ملف الحادثة 67"، وافرازات الحرب الأهلية اللبنانية في "الشياح"، والاضطهاد السياسي والاجتماعي في مصر خلال حقبة تاريخية معينة في "الثلاثية". ويتبيّن من هذه المضامين خضوع الفرد العربي لعلاقات سلطوية تقوم على القمع والاستلاب والاستسلام وغياب المؤسسات، يروح الروائي يبحث عن كوة أمل يدخل منها الضوء والقيم الأصيلة الى هذا العالم الواقعي المنحط، وعملية البحث هذه هي المحور الأساسي في معظم روايات اسماعيل فهد اسماعيل كما يرى المؤلف. وهو في قراءة المضامين قد يعرّج على قراءات آخرين لها، لا ليتبناها ولكن ليفنّدها في معظم الأحيان. وقد يعتمد منطقاً تبريرياً غير مقنع لبعض تصرفات اسماعيل الروائية كما في تبريره قفز "الثلاثية" فوق مئة وسبعين سنة من التاريخ المصري 1801 - 1971، ولست أعلم ما الذي دعاه الى ذلك طالما ان الرواية ليست تاريخاً، وطالما انه أعلن في منهجه انه سينطلق من العمل ذاته، ولن يهتم بما هو خارج عنه أو زائدٌ عليه. إذا كان جابر خصّص الفصل الأول من الباب الأول لقراءة المضمون السياسي للروايات، فهو أفرد الفصل الثاني للمضمون الاجتماعي مركِّزاً في هذا السياق على علاقة الرجل بالمرأة، وعلاقتهما بالسلطة الأبوية، والعلاقات الاجتماعية بين الشخصيات، من دون أن تفوته الإشارة الى أن هذه العلاقات هي انعكاس للعلاقات السياسية، والى أن ثمة علاقة جدلية بين المضمونين السياسي والاجتماعي في الروايات. ولذلك، فإن "الانحطاط" الذي سلفت الإشارة اليه في العالم السياسي لا بد من أن ينعكس في العالم الاجتماعي. وهكذا، يتمظهر هذا العالم: في علاقة تقليدية، غير حضارية بين الرجل والمرأة في "كانت السماء زرقاء"، وفي الاضطهاد الاجتماعي في "المستنقعات الضوئية"، وفي قمع المرأة في "الحبل"، وفي اضطهاد العمال الوافدين في "ملف الحادثة 67"، وفي الاضطهاد الأبوي السلطوي في "الشياح"، وفي الاغتراب وزيف العلاقات في "الطيور والأصدقاء"، وفي العلاقات الاجتماعية المتخلفة المفككة في "النيل يجري شمالاً: البدايات"... فالمضمون الاجتماعي للروايات هو الاضطهاد على أنواعه، ذاك الناتج من الاضطهاد السياسي والمكمل له، ما يعني ان العالم الروائي لإسماعيل هو عالم أسود يتلمّس صاحبه بعض البقع البيض. ولعل هذا ما جعل الباحث يغرق في هذا السواد أكثر مما يحاول التشبّث بقشّات النجاة العائمة على صفحة ذلك العالم. ولئن كانت المضامين شغلت الباب الأول من الدراسة، فإن الباب الثاني مفتوح على البناء الفني على مصراعيه، من خلال الكلام على السرد والشخصية الروائية وتيار الوعي. وعليه، يقدم السرد على العناصر الروائية الأخرى، ويعتبره "العمود الفقري للرواية" ص95، ويقارن بينه وبين الحكي والقصة والنص، ليخلص الى أنه "الكيفية التي تُروى بها القصة"، ويتناول تقنياته المختلفة، فيقدّم تعريفاً نظرياً مبتسراً لكل منها، ويضرب مثلاً تطبيقيّاً أو أكثر على كل تقنية من هذه الرواية أو تلك، وهو قد يعرّف التقنية/ المصطلح استناداً الى دارسين ونقاد آخرين، فنقف عند السرد الاستذكاري، والسرد الاستباقي، وتسريع السرد وتعطيله وسواها من التقنيات. وإذ يرصد الباحث وتيرة السرد في الروايات من حيث السرعة والبطء، يتوقف عند مصطلحات قياس هذه الوتيرة مثل: التلخيص، الحذف، السرد المشهدي، الوقفة الوصفية، والتبتير السردي. ويضرب الأمثلة على كل هذه المصطلحات، فيجمع بين التنظير والتطبيق... وفي مقاربته علاقة السارد بالشخصية الروائية، يشير جابر الى ثلاثة أنماط في هذه العلاقة" أن يعرف السارد أكثر من الشخصية، أن يساويها في المعرفة، أن يعرف أقل. والموقع الذي تحتلّه الشخصية الروائية في العلاقات الروائية يتناوله الباحث بمعيار تفاضلي حين يعتبر "الشخصية الروائية الركيزة الأساسية للرواية"، بينما رأى هو نفسه أن "السرد هو العمود الفقري للرواية"، فيسقط في التعريفات التفاضلية وأحكام القيمة التي لا تقول الكثير في وصف العنصر الروائي. فما الفارق بين "العمود الفقري" و"الركيزة الأساسية"؟ وأية اضافة تقدمها مثل هذه التعريفات؟ وبانتقاله الى طريقة تقديم الشخصية في الروايات موضوع البحث، يمهّد لذلك بالإشارة الى ان الروائي التقليدي يقدم الشخصية دفعة واحدة، أما الحداثي فيقدمها على مساحة الرواية في شكل متقطع متدرِّج، ويخلص الى ان اسماعيل حداثي بهذا المعنى ينطلق من اللحظة الحرجة، ولا يتسلسل زمنياً في تقديم الشخصية بل يقدمها بطريقة العرض/ الكشف لا الإخبار... على أن ما يتم تقديمه من الشخصية يختلف بين رواية وأخرى، ففي حين يغيب التقديم الجسدي عن معظم الروايات، يحضر في رواية "الشياح"، وهي على أية حال تأتي في مستوى أدنى من سائر الروايات فنياً. والباحث في معرض تصنيفه جهات تقديم الشخصية قد يستعمل مصطلحات لا تتسع لاستيعاب شتى الأنماط، فهو يعتبر مثلاً أن تقديم الشخصية يصدر عن رؤية موضوعية حين يقدمها الراوي، وعن رؤية ذاتية حين تقدمها شخصية أخرى. وهنا، نتساءل: أين يضع تقديم الشخصية لذاتها بضمير المتكلم؟ هل يصدر هذا التقديم عن رؤية موضوعية أم ذاتية؟ ويختتم الباحث كلامه على البناء الفني بالتعريج على تقنية تيار الوعي، مستنداً الى كتب نقدية عربيّة ومعرّبة، يستنتج منها ان المصطلح ابتدعه وليم جيمس، وأن هدفه "سبر الوجود النفسي للشخصيات" بواسطة الاعتماد على اللاوعي. ويستنتج من بحثه ان اسماعيل فهد اسماعيل يركز على النواحي النفسية المضطربة لبعض شخصياته داعماً استنتاجه بالنصوص. في خاتمة البحث يرسم عمر صبحي محمد جابر المشهد الروائي لإسماعيل فهد اسماعيل على النحو الآتي: انسان عربي مأزوم، وهموم قومية واحدة، واضطهاد اجتماعي مرتبط بالسياسي، على مستوى المضمون، وكتابة آلية، وبناء حداثي، وتقنيات سردية حديثة، على مستوى البناء الفني. وهكذا، يكون الروائي بنى ما هو متردٍّ واقعياً بأدوات حديثة روائياً، فأعاد انتاج الواقع فنيّاً، أليست هذه مهمة الرواية؟ ويكون الباحث حقّق هدفه "بإعطاء صورة كاملة مفصّلة متأنية عن روايات اسماعيل فهد اسماعيل شكلاً ومضموناً".