لم يكن يتوقع أن تصبح روايته الأولى هي الرواية الرابعة التي يكتبها، لم ينتبه للسنوات العشر التي قضاها في معراج الكتابة تحمله تارةً ويحملها تارات أُخر، وزّع نصوصه على عددٍ محدودٍ دون أن ينتبه إلى أنهم سيكونون ذات يوم مراجعه المهمّة التي تثبت تجاربه السابقة التي وأدها بالحرق حين لم يرَ فيها ما يحكم عليه بالنضج والتمام، تقدّم لأكثر من ناشرٍ ولكنه كحال الكثير من الكُتّاب العرب يواجهون الصعاب كما لو أنهم يتسلقون الهملايا لا يودون نشر أحد الأجناس الأدبية المهمة بعصرنا الحاضر. الروائي الليبي محمد النعاس صاحب البوكر العربية 2022، وصاحب "خبز على طاولة الخال ميلاد" الذي تلتقيه "الرياض" وتزيد التحامه بقرائه بشتّى البقاع في حوارٍ اختصّها به ليقول فيه ما لم يقله بصورته الراهنة.. فإلى نص الحوار: * قبل البدء تبارك لكم جريدة "الرياض" حصولكم على جائزة البوكر للرواية العربية 2022، ويليه:أرى أنّ انقلاب الكاتب على واقعه بالكتابة لا يحتاج إلى تاريخ ميلاد قديم.. وهذا ما سيجده الباحث في سيرة الروائي الليبي محمد النعاس المولود في العام 1991م، فأمامك عمر طويل من الكتابة إذن.. وسؤالي: ما الذي أحرقته من النصوص قبل رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" حتى الآن؟ وما الذي أحرقك؟ * الكثير، كتبتُ "روايتي" الأولى في 2012 عندما كنتُ في الواحدة والعشرين من العمر، وأظنّها العمل الوحيد الذي أحرقني لسنوات أربع حاولتُ فيها أن أنشرها، قبل أن أقرر حرقها والتخلي عنها كُلياً، مازال مخطوط الرواية في أيدي قراءٍ ليبيين لا يتجاوز عددهم الخمسين. لي مع ذلك العمل علاقة معقدة، تشبه علاقة أب مع ابن غير شرعي، من ناحية، فهي مولودي الأدبي المتكامل الأول –قبل النُطف التي ضاعت في طريقي للتدريب على الكتابة قبلها-، ولهذا؛ فهي لها مكانة خاصة في مسيرتي، حاولت مراراً أن أضفي عليها الشرعية بنشرها، وكدت أن أتمكن من ذلك مرات، المرة الأولى كانت مع ناشر ليبي، اختفى من عالمي بعد موافقته على نشرها أثناء الحرب الأهلية الثانية في عام 2014، الثانية كانت مع ناشر عربي آخر، لم نتفق بعد نشوب عراك بيننا، والثالثة عندما أنشرتها لأكثر من ناشر عربي آخر، جميعهم إما رفضوها أو طلبوا دفعة مالية كبيرة لنشرها. وهكذا، ومع مرور الزمن، وفتور عزيمتي نحوها، بالإضافة لانشغالي بالحياة وبمشاريع أدبية أخرى قررت حرقها بعد أن كادت أن تحولني إلى رماد. قراءة العمل تختلف باختلاف الحالة عند القراءة وأخلاقيات عصره مشاريع قصصية وروائية أخرى أحرقتها بعد ذلك، كان سهلاً علي أن أفعل ذلك، تخلصت من روايتيْن، واحدة كان الغرض منها العلاج النفسي من آثار الحرب الأهلية، والثانية كان الغرض منها التدريب اليومي على الكتابة والتحرير، كان سهلاً علي أن أتخلص من المشروعيْن، ربما لأنني ربيتُ جلد تمساح فوق جلدي، وهكذا، جاء العمل على "خبز على طاولة الخال ميلاد" يبدو ناضجاً لروائي وكاتب "شاب" لا يبدو له "تجربة روائية"، ولا يعرفه أحد، جاءت الرواية بعد عشر سنوات من الاحتراق بنار الكتابة، أخذتُ وقتي في العجن والتشكل كما أخذت خبزاً على طاولة الخال ميلاد وقتها في ذلك. أظنّ، أنّه كان مقدراً لها أن تكون تجربتي الروائية الحقيقية الأولى، وأشكر الله على ذلك. * "خبز على طاولة الخال ميلاد" كتبت بنفس عميق وهادئ، كتابة متكئة على تركة الموروث ومع هذا سُمع لها دوي هائل أيقظ المشاهد الثقافية لتجربتك السردية.. فهل توقعتم مثل هذا الصدى؟ o حتى لا أكذب عليك، فلدي إجابتان لذلك: الإجابة الأولى أنني توقعتُ ذلك في حال فوز الرواية بالجائزة العالمية للرواية العربية، تأملتُ الأمر بعد دخول الرواية في القائمة الطويلة، ورسمتُ في عقلي كافة "السيناريوهات" كنتُ مستعداً للحسنِ منها وللسيئ، من المنطقي أن يبحث الناس عن الفتى الليبي الذي جاء من أرض يظنها الكثيرون قاحلة لا تنتج الأدب ولا الفن إلا في ما ندر، وبهذا سيثيرهم الاهتمام عمله الفائز، وسيقرؤون روايته. وهذا ما حصل بالفعل، ولكنني توقعت أيضا "السيناريو" الذي تختفي فيه الرواية عن الأنظار حتى بعد أن تصل إلى القائمة القصيرة، وهذا أمر مؤسف، أن يكون الأدب رهين الفوز بجائزة -مع تقديري للجوائز وما تمنحه للكتاب من فائدة معنوية وأدبية-، ليس هذا ما يجب أن يكون عليه الأدب. في ليبيا مثلاً، وطني وحبي الأبدي، انهالت موجة من الانتقادات والقراءات البعيدة عن فحوى الأدب، فقط لأنّ كاتباً لا يعرفه الوسط الثقافي الليبي فاز بأهم جائزة عربية للرواية، وجدوا فتىً هزم تصوراتهم عن الأدب، وقرروا أن ينالوا منه وينادون بمقاطعة ما كتب. ولم يتحدث إلا نفرٌ قليلون منهم عن الرواية عندما دخلت إلى القائمة الطويلة والقصيرة، وكانوا سينسون وجودها إذا لم تربح. أنا هُنا، لا أنتقدهم، بل أتفهم ما حدث ويحدث، لم أتوقع حقاً أمراً غير ذلك. o كان بينك وبين جائزة البوكر قائمتان وروايات منافسة، ومع هذا حصدتها بالخبز مع أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، فبماذا سيحيا ويحيينا (النّعاس) إذن بعد هذا الخبز؟! o أنا مهموم ومهووس بالكتابة، ولهذا، لا أظنني سأتوقف عنها، الأمر ليس له علاقة بجائزة أو برواية نالت هذه "الشهرة"، الأمر مصيري بالنسبة إلي، يتعلق بقدرتي على مجاراة هذه الحياة من غير الكتابة، والحق.. الحق أقول، لا أعرف كيف أواجهه دون أن أكتب، ولهذا؛ سأظل أكتب. هذا ما يهم، لا يهم حقاً إن كانت المشاريع الأدبية والثقافية القادمة بنفس "جودة" الخبز، إذ إنّ لكل مشروع أدبي سماته وأجواؤه التي تخصه وحده، كل ما يمر به الكاتب في حياته يؤثر عليه ولهذا لا يمكن توقع أن تكون كل المشاريع متشابهة أو متقاربة، بعض تلك المشاريع سيجتاز الخبز، بعضها سيكون أقل منها، بعضها قد يكون في مثل جودتها، والبعض الآخر سيُحرق ولن يرى الضوء. هذا هو الواقع، وهذا المنطق الذي أؤمن به في الكتابة الأدبية. * هناك انقسامات متنوعة في قراءات مختلفة لقراء روايتك "الخبز على طاولة الخال ميلاد"، بعضها مثلًا: "رأى أن النص استخدم ألفاظًا نابية متعددة، ولو أنه تجاوزها لكانت روايته أفضل حتى لو لم تحز على البوكر"، والبعض رأى مصداقية الأحداث وتماسها من أرضية الواقع بل وأسهمت بنقل الحوادث بدقة ونجح الكاتب في تماهيه وسرديته، بقي علينا سماع النّعاس نفسه ماذا سيقول؟ o القراءة هي عمل فردي، ولهذا يخرج الناس بانطباعات مختلفة عن رواية ما، بل إنّ قراءة العمل نفسه تختلف داخل ذات قارئ واحد باختلاف حالته عند قراءتها، الزمن الذي قرأ فيه الرواية، وأخلاقيات عصره. فمثلاً، هناك من قرؤوا "الشيخ والبحر" لهيمنغواي في العالم الغربي في الأعوام الماضية، ووجدوها رواية "ذكورة سامة" لأنّ أخلاقيات العالم الغربي في هذا الزمان تختلف عن أخلاقياته في زمن نشر الرواية. يمكنك أن تجد قراءً كرهوا إسهاب أومبرتو إِكو في ذكر تاريخ الكنائس والتاريخ المسيحي في رائعته "اسم الوردة"، بل إنّ أولئك القراء وجدوا أنّ إِكو قد خدعهم. أنا نفسي مررتُ بهذا الأمر، أقرأ عملاً في حالة نفسية معينة بتاريخها النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني، فأجدني كارهاً له، وعندما أعيد قراءتها مرة أخرى في حالة مخالفة، أجده من أعظم ما كُتِب. وبهذا، فهناك من قرأ الرواية ووجد مشاهد الخبز وحديث ميلاد عن العجين والخبز، زادت عن حدها وأضرّت بالرواية، وهناك من وجد نهايتها مزيّفة، ومن وجد أنّ النهاية أفسدت العمل، بل ومن وجد أنّ النهاية هي الأمر المنطقي الوحيد فيها، ومن أحب النهاية. وهناك من أخرج زينب خائنة ومن أخرج صالحة كأخت متآمرة على سعادة ميلاد، للجميع الحق في إخراج الرواية كما يحب؛ بل إنّ الرواية نفسها كُتِبت حتى يفعل الناس هذا الأمر بالتحديد، الأهم أن لا يصادروا حقّي في الكتابة، الباقي مجرد رتوش. * بطلك "ميلاد الأسطى" كائن إنسانيّ يمكنه أن يكون بأي بلدٍ عربي أو غربي تتقاذفه السلوكيات التربوية الموروثة، ويتأطّر بأُطر تعريف الرجُل والرجولة وفق معايير إن لم يتطابق معها فهو ليس رجلًا! o بالطبع، بل إننا إذا عُدنا إلى تعريف الرجولة في بلد واحد وقسناه على أزمان مختلفة، سنجد اختلافات عدّة، طبعاً بعيدًا عن التشابه في بيولوجيا الرجل وقدراته الجسمانية. الليبيون في منتصف القرن التاسع عشر مثلاً، لم يسمحوا لنسائهم بالتعلم والخروج من البيت إلا للحاجة -وعلى النساء في تلك الفترة أن يرتدوا الفراشية، الرداء الأبيض التقليدي الذي يظهر فقط عيناً واحدة من المرأة-، ولهذا سيجدون أحفادهم الذين صارت عندهم، مسألة تعلم المرأة، مسألة فطرية لا نقاش فيها، سيجدونهم ليسوا رجالاً حقيقيين. بل إننا نحن الآن، في هذا الزمان، نجد لباساً ما -كحذاء الكعب- يخص النساء كان يرتديه الرجال فقط في عصور سابقة. ولهذا، يبدو ميلاد لمجتمع قريته – ولا أقول المجتمع الليبي بأكمله- خارج تعريفهم للرجولة، بل تجد داخل الرواية تعريفات مختلفة للرجولة، والد ميلاد مثلاً، لديه تعريف مختلف تماماً عن العبسي ابن عمه. كيف للحاج مختار الأسطى أن يرى في "العبسي" رجلاً وهو لا يعمل ولا يكسب من عرق جبينه؟ كيف يجد فيه رجلاً وهو يدري أنّه "يكذب"؛ الذنب الذي لا يقترفه رجلٌ عنده. o في ليبيا روائيون عمالقة، بعضهم هجرها ولم يعد يرجع إليها إلا أنه ظل يكتب عنها وكأنه داخلها ومع هذا لم يكافئها، أو لم يحرز تقدمًا ولا تصالحًا معها.. فهل يشعر النعاس أنه كافأ مشهده الثقافي الليبي بهذا المُنجز الأدبي والإبداعي الذي احتاجته ليبيا ولربما انتظرته من غيره كثيرًا؟ o علينا أولاً أن نعود لما تقصده بالمكافأة، هل تقصد بها الجوائز؟ إن كان كذلك، فالروائيون الليبيون أحرزوا جوائزاً عالمية عديدة، فالكاتب الليبي الأميركي هشام مطر أحرز جائزة البولتزر عن روايته "العودة" عام 2017، هذا عدا عن الجوائز التي تحصل عليها مولانا شيخ الروائيين الليبيين إبراهيم الكوني، ولكن هذا كلّه لا تحتاجه ليبيا، ليبيا ليست في حاجة لمحمد النعاس ولا غيره؛ إنّها تحتاج علاجاً طويلاً من عقود الديكتاتورية والحرب حتى تُظهر أدبها وفنونها للعالم، الأدب الليبي أدب يُعاني ويلات التهميش وحرب نفسية مع السلطة الحاكمة والسلطة الجمعية. أنا تربيتُ على الأدب الليبي، كان أكثر الآداب التي قرأتها ولا يزال، وأقول لك، في ليبيا، هناك عمالقة في فن القصة للأسف لم يظهروا للعالم، بل لم يظهروا في ليبيا. o هل كافأت المشهد الثقافي الليبي بالجائزة العالمية للرواية العربية؟ * لا أعرف، عليك أن تسأل المشهد الثقافي نفسه هذا السؤال، ولكنني، أرجو... أن يكون ما فعلته، محفزاً لجيل جديد من الأدباء الليبيين، أن ينظروا إلى ما يمكنهم إضافته للأدب، هذا المنتج الإنساني المشترك. حوار - جابر محمد مدخلي