لدى القادة الروس إحساس عميق بالعيش في وطن غالباً ما يُعزى إليه بحماية إلهية، كوريث لبيزنطة، وحاضن الأرثوذكسية العالمية، والمملكة السلافية، والأممية الشيوعية، والآن المهمة الاستثنائية الأوروآسيوية، هذه المشاعر التاريخية المتجذرة في عقلية الروس ليست معضلة أصابتهم دون غيرهم، بل أبدت - سابقاً - دول كبرى أخرى مشاعر مماثلة، فقد ادعت الولاياتالمتحدةوالصين وجود استثناءات سماوية، واستغلت إنجلترا وفرنسا العامل الديني طوال تاريخهما الاستعماري. لا شك في أن هذا الإحساس يزوّد روسيا بالفخر، لكنه في الوقت نفسه يشعرها بالغبن تجاه الغرب الذي لا يثمّن تفرّدها وأهميتها، ونتيجة لذلك تأرجحت روسيا بين بناء علاقات وثيقة مع الغرب أو النفور واعتماد العدوانية، باعتبار الأمن الروسي سبباً للتحرّك واستباق أي هجوم خارجي، وأيضاً اعتبار الدول المجاورة لها دولاً مستقلة اسمياً، بما في ذلك أوكرانيا التي لا تعترف موسكو بوجودها منفصلة عن الأمة الروسية. هذا الاعتقاد الراسخ لدى روسيا تولّد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والآن هي دولة كبرى، وتشعر بأن تسوية ما بعد الحرب الباردة كانت غير متوازنة وغير عادلة، وقد تكون روسيا محقة في هذا الاعتقاد، لكن هذا لم يكن بسبب أي إذلال متعمّد، بل جاء كنتيجة حتمية لانتصار الغرب الحاسم في المنافسة مع الاتحاد السوفييتي. هذا الشعور الروسي، قد انتاب - سابقاً - المملكة المتحدة وفرنسا، مع سطوع نجم الولاياتالمتحدة، واستغرق ذلك طويلاً للتخلي عن إحساسهما بالتفرّد والمسؤولية العالمية، على الرغم من امتلاكهما ناتجاً محلياً مرتفعاً، وقوة مالية، وجامعات عالية التصنيف، وصناعات رائدة، وقدرات إلكترونية، وقوة نووية وجغرافية فريدة. لذلك القوة الصلبة تبقى هشة من دون الأبعاد التنموية الأخرى، ومهما أصرّت روسيا على أنه يجب الاعتراف بها مساوية للولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الصين بالقوة، فإنها ليست كذلك، فالتفوق العسكري الإقليمي والنفوذ الاقتصادي في أوراسيا، لا يكفلان لروسيا مكانة القوة العظمى الدائمة.. لكن عندما تتمكن روسيا - رغم إحساسها بالاستثنائية - تنحية التنافس مع الغرب، والذي لا يمكن الفوز به في الوقت القريب، ستتمكّن من وضع نفسها على مسار أكثر إشراقاً، لأن الذي يشكل تهديداً وجودياً لروسيا ليس الغرب، بل ضخ معظم موارد الدولة في التحديث العسكري على حساب التنمية الاقتصادية والبشرية.