بنيت مكتبتي على ضفاف الاستعارة للمكتبات مع أصحابها قصصٌ ومواقف، وأيضاً طرائف وأشجان تستحق أن تروى، «الرياض» تزور مكتبات مجموعة من المثقفين، تستحث ذاكرة البدايات، وتتبع شغف جمع أثمن الممتلكات، ومراحل تكوين المكتبات.. في هذا الحوار الكُتبي نستضيف الزميل د. زياد بن عبدالعزيز آل الشيخ الباحث والمهتم في التقنية والاقتصاد والأدب، يطل علينا عادة من زاوية الأدب شاعراً، لكن من نظرة سريعة إلى مكتبته تتكشف لنا روافد غير تقليدية لمنتجه الأدبي. ولا تمثل المكتبة لضيفنا مجموعة من الكُتب المنتقاة لقيمتها المعرفية فقط، إنما إضافة لذلك وراء كل كتاب قصة تروى، إما إهداء من صديق أو بحث وقصيدة جديدة. لذلك يحتفظ ضيفنا بمكتبته لا باعتبارها مراجع لذاتها إنما شاهد على مسيرة طويلة مع الأدب والفكر. وفي زيارتي لمكتبته وجدت مساحة كبيرة لعلوم الهندسة والحاسب الآلي التي تخصص فيهما ضيفنا، أغلبها باللغة الإنجليزية. كما أن فنوناً أخرى كالتاريخ والاقتصاد والفلسفة قد نالت نصيباً وافراً من الاهتمام. وعندما تتفحص العنوان ستدرك سريعاً أن التاريخ الأندلسي له مكانة خاصة في المكتبة، وهو نتاج مشروعه الشِّعري الأخير عن سقوط مملكة غرناطة.* في أيِّ مرحلة من العمر تعرَّفتَ على الكتاب؟ * عرفت الكتاب مبكراً منذ أن كنت أصغر من أن أتناول كتاباً لوحدي تحت تلك الرفوف الشاهقة في مكتبة والدي وجدي. حيثما اتجهت وجدت تلك الرفوف المليئة بالكُتب المجلدة المتينة ذات الألوان الداكنة والتي تعتقت أغلفتها من كثرة التناول. كانت تلك الكُتب تأخذ مكانها في كل مكان، فأينما رفعت رأسي وجدت كتاباً معلقاً في الرفوف كسحابة توشك أن تمطر. ومع الوقت، كبرت وكبرت قدرتي على تناول الكُتب، وعرفت أنني لست بقادر أن أعيد كل كتاب أخذته من الصفوف المرتبة كما كان، فكل كتاب تقرأه سيفتح فيك مساحة أو نافذة لعالم جديد يخلل صفوف العالم القديم داخلك. كان التسلل إلى المكتبة هو الدرس اليومي في فهم نظام الأشياء، تلك المجلدات الواقفة صفاً صفاً ما أسهل أن تخلخلها بيد غضة لا تكاد تدرك ما تفعل، وما أصعب أن تعيدها كأن شيئا لم يكن. * هل تستطيع تحديد بعض بدايات تأسيس مكتبتك المنزليَّة؟ * لابد أنني بنيت مكتبتي على ضفاف الاستعارة من غابة الكُتب التي تحيط بي بنية غير واعية بامتلاكها. هكذا نمت الكُتب في غرفتي الصغيرة كما ينمو العشب الوحشي في البراري عشوائياً فأينما وضعت عينك وجدت كتاباً في غير محله. ولا أذكر بالضبط متى لملمت شعث مكتبتي ومارست بحقها الانضباط العسكري كل صباح. * ماذا عن معارض الكُتب، ودورها في إثراء مكتبتك؟ * كانت معارض الكُتب متأخرة في علاقتي بالكُتب، وإن كنت أذكر المعارض التي زرتها مبكراً، لكنني بدأت في الإعداد لسد الثغرات المعرفية في مكتبتي بعد أن تشكلت اهتماماتي في المرحلة الجامعية خصوصاً، وإن كنت منذ ذلك الوقت قد تنقلت كثيراً حتى لم يعد لديّ مساحة كافية لبناء مكتبة بالمعنى المعروف، فالسفر كان سبباً في تأجيل اقتناء كثير من الكُتب التي تنوء بحملها الحقائب. * ما أبرز المنعطفات التي رافقت نموَّ مكتبتك الشَّخصيَّة؟ * المنعطف الحقيقي لمكتبتي هو الكتاب الإلكتروني الذي غير مفهوم المكتبة عندي، فبعد أن تصاعد عندي الاقتناء بعد عودتي من البعثة، سرعان ما أخذ الكتاب الإلكتروني حيزاً أوسع وأعمق، وحاز في وقت قصير مساحة كبيرة من مقتنياتي. وعلى خلاف المعتاد، أصبحت المكتبة الافتراضية تحتوي كُتب القراءة الأولى والمكتبة الورقية تحتوي الكُتب المرجعية والكُتب المهمة التي أرجع إليها كثيراً. القارئ الجيّد يكتشف الكُتب المُهمة * هل يوجد في مكتبتك كُتب مُهداة بتوقيع مؤلفيها؟ * نعم كثير، وأحب أن أحتفظ بها في جزء خاص من مكتبتي بعيداً حماية لها من أيادي هواة الاستعارة فلها مكانة خاصة عندي. * ما أطرف المواقف التي حصلت لك في البحث عن الكُتب؟ * عادة ما أبحث عن الكُتب التي يشار إليها في كتاب أثناء قراءته أو بعده بقليل، قبل أن يفتر حماسي له، فتكرر ذكر كتاب في إحدى القراءات مما شجعني للبحث عنه، فوجدته في إحدى المكتبات الإلكترونية وعزمت على شرائه إنما وجدت تكلفة الشحن أعلى من المعتاد فبحثت عن السبب ووجدت الكتاب أكبر مما كنت أتوقع فهو قرابة ألفي صفحة من القطع الكبير، ولأني كنت في مهمة عمل وقتها أجلت شراءه لوقت آخر. * ما أطرف العناوين الموجودة في مكتبتك؟ * كتاب: «شكراً لأنك تأخرت» واختار المؤلف هذا العنوان عندما تأخر صديقه عن موعد لهما، فانتظره قليلاً لكنه وجدها فرصة لمراجعة جدوله اليومي وإعادة النظر في مواعيده التي تصطف في مفكرته كجدار من الطوب الأحمر، وأخذ يتفكر في وقته، ذلك الوقت الذي يعمل كقطار متوحش سريع يوقظ القرى النائمة في أحلامنا. فعندما وصل صديقه بعد الموعد بنصف ساعة، بدأ يعتذر له كما هو متوقع فبادره قائلاً له شكرا لأنك تأخرت. * بما أنك مُهتم بالكُتب ولديك مكتبة خاصة ما أبرز الكُتب التي تحرص على قراءتها؟ * الكُتب التخصصية تنال حيزاً كبيراً من اهتماماتي القرائية، لكنني أحافظ على طاقتي الإبداعية بكُتب من فنون مختلفة في الأدب وفي غيره. ولأن الكُتب اليوم اختلفت وسائطها، أصبح الكتاب الورقي محصوراً في الكُتب التي أعود إليها كثيراً، أما القراءة فهي على نوعين: قراءة استكشافية، وقراءة معرفية. ولكثرة الكُتب وقلّة الجيد منها، تصبح القراءة عملية استكشافية ليس لها نهاية، فمهمة القارئ الجيّد أن يكتشف الكُتب المُهمة التي عليه أن يقرأها أكثر من مرة. * هل ساعدتك المكتبة الخاصة بك على التأليف؟ * بكل تأكيد، مؤلفاتي الأخيرة لها جانب معرفي يتطلب مني تكثيف القراءة في المجال الذي أكتب فيه، سواء بالاطلاع على التجارب المقاربة أو الموضوعات ذات الصلة. كتابي الأخير: «معلقة غرناطة» عن السنوات الأخيرة لسقوط غرناطة تطلب مني قراءة عشرات الكُتب التاريخية والأدبية التي تناولت الأندلس وغرناطة بالخصوص. وقد كانت القراءة المتصلة في موضوع الكتاب سبباً في تأجيل الإصدار أكثر من مرة وإعادة كتابته ثلاث مرات. * حدثنا عن كتابك الأخير؟ * كتاب: «معلقة غرناطة»سيرة شِعرية لسقوط آخر مملكة إسلامية في الأندلس بعيون شخصيات مختلفة أهمها أبي عبدالله الصغير. حاولت من خلال قراءة تاريخ غرناطة والأندلس أن استنطق الشخصيات التي أهملها التاريخ، فهي مدينة عظيمة لم يكتب عنها في ذلك الوقت بما يكفي. فالكتاب محاولة شِعرية لإعادة قراءة التاريخ من خلال الشخصيات التي لعبت دوراً في الأحداث والشخصيات التي على هامشه. وهي محاولة من جهة أخرى لتوسيع دائرة الشِّعر ليستوعب موضوعات جديدة. فالكتاب متصل الأجزاء له موضوع واحد بما يتناسب مع الأحداث التاريخية مع الابتعاد عن السرد التاريخي المباشر. * ماذا تُفضل.. المكتبة الورقية أو الرقمية؟ وما السبب؟ * المفهوم التقليدي للمكتبة يفترض حاجتك لعدد كبير من الكُتب خصوصاً في الموضوعات المتعلقة بمجال البحث، فليس من الضروري أن تقرأ الكُتب كلها، وهكذا جرت العادة في وقت لم تكن المكتبات العامة موجودة أو فاعلة. مع وجود الكُتب الرقمية والصوتية اختلف الأمر، فعلى القارئ أن يقرر أي الكُتب التي يفضل أن يقتنيها في صورتها الورقية أو الرقمية، وبذلك يصبح من الضروري أن يتبع منهجا له في القراءة. كما ذكرت سابقاً، أفضل أن أقرأ الكُتب الجديدة قراءة استكشافية رقمياً، وأترك الكُتب الورقية للتي لا تتوفر رقمياً أو التي أحب أن أعود لها للمقتطفات والمختارات عند الحاجة. * هل مكتبتك متخصصة أم متنوّعة؟ * مكتبتي خريطة لاهتماماتي المعرفية التي تنوعت منذ البدايات، ورغم وجود فراغات قليلة في هذه الخريطة من فترات فقدت فيها أجزاء من مكتبتي لظروف مختلفة، إلا أنها تمثل اليوم رحلتي الطويلة التي يختلط بها التخصصي بالعام والهندسي بالأدبي والاقتصادي بالفلسفي. * هل تقتني الكتاب من خلال توصيات أو بانتقاء شخصي؟ * لكل كتاب قصة تقريباً، إنما أكثر ما أحرص عليه أن أختار بناء على توصيات مباشرة أو غير مباشرة من كُتب قرأتها، فعادة ما تحيل الكُتب إلى كتب أخرى، فأحرص على الحصول عليها وإن لم تكن ضمن أولويات القراءة، وفي ذلك مسألة أخرى حيث إن الأقرب للذاكرة والأقرب تناولا يتقدم في سلم ترتيب القراءة، فيحيل هو إلى كُتب أخرى تنال الاهتمام لاحقاً وهكذا. إن لم يكن الكتاب ضمن مشروع خاص، فالتداعي الحر هو الذي يقرر مدى القراءة ونوعها. * ما رسالتُك التي توجِّهها لكلِّ من يملك مكتبة خاصَّة؟ * أن يختار كُتبه بعناية، فالمكتبة هي رئة البيت وعلينا أن نتأكد من وجودها جزءاً طبيعياً لا طارئاً في حياتنا اليومية، موزعة كالشتلات الصغيرة في كل الزوايا. من وجهة نظر جمالية، يشعرك المكان الذي يخلو من الكتاب والضوء الطبيعي بالوحشة، ولا بأس أن يختل ترتيبها بين فترة وأخرى، فذلك أجدر بأن تتحرك لتنشط دورة البيت الدموية. * كلمة أخيرة: * أشكر جريدة «الرياض» زيارتها التي تشرفت بها وأرجو أن تكون المكتبة في دائرة اهتمام القراء دائماً عناية بها واهتماماً فهي عضو مهم في عائلتنا، وللأخ بكر هذال الشكر الجزيل على عنايته بهذه الصفحة «زيارة إلى مكتبة» المضيئة من صفحات الثقافة الأسبوعية. مجلة «ناشيونال جيوغرافيك» عام 1980م تحتوي على صورة للملك سلمان -حفظه الله- إذ كان أميراً للرياض مخطوطة لقصيدة الشيخ عبدالله بن عمر آل الشيخ في رثاء عمه الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ رحمهما الله