الأنشيلوتيكر شخصية رياضية حيرت الشارع الرياضي بمختلف أطيافه في نسخة دوري أبطال أوروبا للعام 2021- 2022، شخصية أربكت المحللين الفنيين والعشاق الهائمين، عبثت في مشاعرهم، غيرت مفهموم الحسم المبكر للمباريات، يشعرك بالعجز التام في معظم فترات المباراة ليعود في ساعته المفضلة ويسقط المنافسين ب"الضربة القاضية"، ويلجم كل من ينتقد تسييره لمجريات المباريات. باريس في ثوب الخيلاء يحط رحاله في مدريد! دخل الأنشيلوتيكر مباراة الإياب مع باريس سان جيرمان متأخراً بهدف، متمسكاً بذات السلاح التكتيكي لمباراة الذهاب، ليستغل الباريسيون هذا التكتل الدفاعي ويضغطوا مبكراً باللعب في منطقة الخصم ويحرزوا هدفاً قبيل نهاية الشوط الأول كان بمثابة الإبرة المخدرة لتعزيز الثقة لديهم في الصعود لدور الثمانية. أدرك الأنشيلوتيكر أهمية تفعيل خطة العودة في المباراة مبكراً، ليقحم ذخيرته المنقذة في لحظات الشك والخوف، فأشرك كلاً من رودريغو وكامافينغا (د 57)، فانبعث الأمل معهم وعادت الكتيبة البيضاء لشن الهجمة تلو الأخرى على دوناروما حتى تمكن بنزيما من سرقة أول أهداف الريمونتادا التاريخية، صاحبته هتافات محفزة لجماهير البرنابيو التي تؤمن دائماً بعودة فريقها. بالفعل دقت وحانت ساعة الأنشيلوتيكر في الدقيقة 76 ليسجل كريم ثنائية مذهلة، وكأن الباريسيون أصابهم النعاس أو فقدوا ذاكرتهم لدقيقتين كان البرنابيو يغلي فيها في سيمفونية خالدة بين الكتيبة البيضاء ومناصريها (نشوة الأنشيلوتيكر). لم يصحوا الباريسيون من سباتهم إلا مع صافرة الحكم -التي كانت بمثابة "صفعة" أيقظتهم ليجروا معهم ثوب الخيلاء نحو عاصمة النور- معلنة تأهل كتيبة الأنشيلوتيكر لربع النهائي بهاتريك تاريخي للمتألق كريم بنزيما. ملحمة البرنابيو كان ريال مدريد قد قطع شوطاً كبيراً في مباراة الذهاب حين حقق فوزاً ثميناً ب3 أهداف أحرزها قناص مدريد كريم بنزيما مقابل هدف للبلوز، ليدخل مباراة الإياب بتراخٍ غير مبرر لكتيبة اعتادت احترام الخصوم، فوجد نفسه متأخراً ب3-0 في مستهل الربع الأخير للمباراة، وهذا ما يعني إقصاءه عن المنافسة. هنا كان على أنشيلوتيكر أن يبدأ هوايته المعهودة في إحداث ثورة الربع الأخير من المباراة، فأقحم مخزونه الاحتياطي وذخيرته في لحظات البأس (كامافينغا د73 ورودريغو د80)، فاشتعلت المواجهة وشنت كتيبة الأنشيلوتيكر غارات على منطقة الخصم في أجواء ملتهبة صاحبتها أصوات غضب خالطها الشك في مدرجات البرنابيو، ليخضع البلوز مع الدقيقة 80 بهدف من حصان البطولة، رودريغو الصغير ألهب الحاضرين في البرنابيو وخلف الشاشات ليعلن صحوة الأنشيلوتيكر في وقتها وساعتها البيولوجية المعتادة. سير الأنشيلوتيكر المباراة في أشواطها الإضافية، وكان على ثقة بأن هدف التأهل مسألة وقت، فكان له ما أراد بلمسة القناص وأفضل الهدافين كريم بنزيما. ثارت ثائرة توخيل وهو لا يصدق ما رآه من عودة مجنونة لفرقة الأنشيلوتيكر، فغربل وغير، وكر وفر، لكنه لا يملك خلطة النجاة السحرية للخلاص من جحيم البرنابيو فخضع وسلم وخرج من البطولة بردة فعل تحسب له ولفريقه الذي لم يرمِ منديله رغم ما حدث في لندن. قلعة السيتيزن يدخل الريال شوط الأنشيلوتيكر ويجد نفسه خلال 7 دقائق متأخراً بهدفين عن السيتي 3-1. بعد هذا التقدم الصريح والتفوق التكتيكي لغوارديولا كان على الأنشيلوتيكر أن يصحو من سباته قبيل ساعته المعتادة، فأسعفه جونيور ليقلص الفارق لهدف بمجهود فردي، ليبدأ بعدها الأنشيلوتيكر بممارسة أفضل هواياته (لعبة المدربين)، فأقحم أحد أحصنة كتيبة الظل كامافينغا في الدقيقة 70، ليبدأ سطوته المعتادة في الربع الأخير من المباراة ويخرجوا بأخف الأضرار بفارق هدف وحيد كان بمثابة (إنعاش رئوي) لآمالهم في لقاء الإياب في جحيم البرنابيو. الصلعة المليارية بذات السيناريو الذي بدأه ريال مدريد في ثمن النهائي مع باريس سيّر الأنشيلوتيكر معظم فترات المباراة في لقائه مع السيتي، حيث فارق الجودة في اللاعبين وإمكانيات استحواذهم على الكرة كان ظاهراً لكل متابع، غير أن الفكر التكتيكي للصلعة المليارية! "غوارديولا" كان ساذجاً -خصوصاً بعد إحراز هدف التقدم من الجزائري المنتشي رياض محرز- حين قرر إخراج العمود الفقري للوسط "دي بروين" والعلامة الهجومية الفارقة المتمثلة في "محرز وجيسوس" في خطأ لا يغتفر في د73، وهي ذات الدقائق التي تعرف ب "ساعة الأنشيلوتيكر" ، وهنا تفطن ربان الكتيبة المدريدية لهذا الخطأ فأقحم كتيبة الظل رودريغو، كامافينغا، أسينسيو. دقت من جديد ساعة الأنشيلوتيكر مع هتافات المناصرين في البرنابيو الذين لا يعرفون لليأس معنى، فشنوا هجمات محكمة أسفرت عن هدف قاتل في الدقيقة 90 سجله رجل اللحظات الحاسمة رودريغو، كل شيء تغير خلال دقيقة واحدة حيث تسلل الخوف للكتيبة المليارية، فارتبكوا في منطقتهم وارتكبوا خطأ آخر، ليرسل كارفخال كرة غير مفهومة! عبرت كل القامات الفارعة لحصون السيتي لتتهادى على رأس الصغير الحاسم رودريغو معلناً عن "قبلة الحياة وشعلة النجاة" لكتبة الأنشيلوتيكر نحو نهائي الأبطال. سارت المباراة للأشواط الإضافية، وكان لا بد لعراب النجاح في كتيبة مدريد -كريم بنزيما- أن يضع بصمته الخاصة، ليسرق ركلة جزاء من غابة أقدام دفاعات السيتيزن، ويسجل ثالث الأهداف للكتيبة البيضاء. عاثت الصلعة المليارية وعجزت في قراءة ما حدث والاستفاقة من آثار الصدمة، وضاعت وسط حنكة وقراءات الأنشيلوتيكر لمجريات المباراة حتى جاءت صافرة الحكم معلنة انتصار الفكر التكتيكي المثمر على قوة المال وشخصية الأنا. ساعة الحقيقة التشابه الكبير لعقلية مدربي قطبي النهائي يجعل من الأمور أكثر تعقيداً وتوقعاً، فالنهائيات غالباً يسودها الحذر المفرط تكتيكياً، نظراً لقيمة الرهان لهذه البطولة العريقة. كغيرها من المباريات ظل كلوب وفياً لأسلوبه الفني، حيث مارس الضغط المعتاد في الربع الأول من المباراة وكان قريباً جداً من إحراز هدف التقدم عبر تسديدة مركزة من ماني، قابلتها رشاقة معتادة في التصدي لكورتوا قبل أن ترتد من القائم الأيسر. على الجانب الآخر لم يتخل الأنشيلوتيكر عن هوايته في خوض مغامرة تكتيكية أدارها بكل ثقة، ونجح في امتصاص المد الهجومي الأحمر، بل كان على مقربة من اصطياد الشباك قبل أن يلغي حكم اللقاء هدفاً أسال الكثير من الحبر والجدل. في شوط اللقاء الثاني عاودت الكتيبة الحمراء ضغطها أولى دقائق الشوط الثاني، غير أن الريال كان أكثر رزانة وواقعية وثباتاً، فصد كافة الغارات القادمة من إنجلترا، وعلى حين غرة من غزوات الريدز استثمر اليافع الأوروغوياني فالفيردي المساحات وقاد هجمة من الطرف الأيمن وأرسل كرة تسللت من أمام عملاقي الدفاع الأحمر، ليكملها البرازيلي جونيور معلنا تقدم كتيبة الأنشيلوتيكر في النهائي. بعد تقدم الريال بهدف أقحم كلوب كل أوراقه الممكنة للعودة في المباراة غير أنها اصطدمت بمنظومة دفاعية تضاهي منظومة بارو الدفاعية الصاروخي المتمثلة في "كورتوا" حيث كان النجم الأول للنهائي الذي قاد الريال للقبه الرابع عشر. مرة أخرى يثبت الأنشيلوتيكر جدارته التكتيكية حين أقحم ثنائي الوسط الدفاعي كامافينغا وسيبايوس، ليقطع بذلك كل الخطوط على الكتيبة الحمراء، ويعلن نفسه بطلاً لنسخة استثنائية كان فيها العلامة الفارقة الأبرز. الأنشيلوتيكر هي صفة ترمز لوجه الشبه بين ما يفعله المصارع الفذ "أندرتيكر" والمدرب المحنك "أنشيلوتي" بخصومهما، فكلاهما يعطيان الخصوم الأمل، وحين تدق ساعتهما يحكمان القبض على الخصوم فيردونهم صرعى! كارلو أنشيلوتي إسماعيل الأنصاري