ألّف القاضي العلامة المحسن بن علي التنوخي كتاباً عنوانه (المستجاد من فعالات الأجواد) سرد فيه مشاهير الأجواد منذ القرن الأول وما بعده إذ سرد قصصهم بالكرم والجود والبذل والعطاء، والأجواد جمع قلة على وزن أفعال، والتنوخي -رحمه الله- قصد هذا الجمع وهو جمع قلة ليشعر أن الأجواد في البشر ليسوا بكثرة وإنما هم قلة في الناس، فالنفس البشرية جبلت على حب المال وإمساكه والحرص على جمعه، وشخصيتنا هذه من الأجواد في العصر الحديث وهو الكريم عبدالمحسن بن حمد المنقور -رحمه الله-، ولو أدرك التنوخي وغيره من المصنفين الذين ألفوا في الكرم والجود لثبتوا عبدالمحسن المنقور في كتبهم، فالمنقور رجل اشتهر ببذل الندى وسماحة النفس وبسط الكف، هذا فضلاً عن مروءته وشهامته التي لا تقل عن كرمه المعهود، فمن قصده ولجأ إليه في أي أمر من الأمور لا يمكن أن يخذله أو يعتذر عن طلبه، بل هو رجل نجدة وفزعة وحقق معنى المروءة وجسدها في خصاله حتى ولو كانت هذه المروءة تؤذيه لكنها سعادته وعشقه ولذته كما قال الشاعر: تَلَذّ لهُ المُروءَةُ وهيَ تُؤذي ومَنْ يَعشَقْ يَلَذّ لهُ الغَرامُ نعم كانت المروءة والجود هي إحدى لذائذ عبدالمحسن المنقور عندما كان ملحقاً تعليمياً في بيروت عاصمة لبنان وكذا دمشق، ثماني عشرة سنة متواصلة وهو بهذا المنصب كان ذا عطاء لا ينقطع على المستوى الشخصي والمستوى الرسمي الدبلوماسي مع أن عمله الرسمي لا يتطلب منه سوى أداء الواجب الوظيفي، إلاّ أن خلقه السامي ومكارم أخلاقه زادت ما فوق الواجب الوظيفي بمراحل كثيرة، فهو شخصية علاقات عامة محبوبة جذابة سلسة هادئة مفتاح لكل خير، وجملة كانت تلازمه لا تنفك عنه هي إذا قيل المنقور تأتي صفة الكريم عبدالمحسن المنقور. تعليم وعِلم وُلد عبدالمحسن بن حمد بن عبدالمحسن المنقور 1344ه في بيت يهتم بالتعليم والعلم، فوالده الشيخ حمد المنقور من أعلام حوطة سدير ومن كتاب الوثائق في حوطة سدير، وقد أسس في حوطة سدير مدرسة خاصة لتعليم أبنائه عبدالمحسن وناصر وسعد، وبعض أسرة المنقور وأصدقائه كما ذكر الباحث ناصر المنقور في نبذته عن تاريخ أسرة المنقور، وقد رحل حمد المنقور وأبناؤه عبدالمحسن وناصر وسعد إلى مدينة الرياض لإكمال تعليمهم الديني، ويروي عبدالمحسن عن بدايته التعليمة أنه حفظ القرآن الكريم على والده وعندما استقر الوالد وأبناؤه الثلاثة في الرياض انضموا في حلقات تحفيظ القرآن الكريم في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم ودرسوا العلم الشرعي في هذه الحلقات من فقه وتوحيد ولغة عربية فكانت هذه المرحلة لهم مباركة، ومعرّفة بعلوم لم يتوسعوا فيها لما كانوا في حوطة سدير، ولو لم يكن أبوهم الشيخ حمد محباً للعلم لأبنائه لما تعنى السفر إلى الرياض، حيث كان السفر على ظهور الجمال، وأعتقد لو أن عبدالمحسن المنقور كتب ذكرياته أو سيرته الذاتية لكانت حافلة بالمواقف والقصص والحكايات؛ لأن شخصيته غنية، وقد تعددت محطاتها في الحياة العملية، ولكنه لم يفعل؛ لأنه لا يحب التحدث عن نفسه، ولعل اللقاء الوحيد له في الصحافة السعودية هو ما أجراه محمد الوعيل في زاويته ضيف الجزيرة، حيث تحدث عبدالمحسن المنقور عن رحلته في الحياة منذ ولادته ومراحل حياته المتعددة الجوانب. طلب الرزق بعد وفاة والده الشيخ حمد المنقور رحل عبدالمحسن المنقور إلى الأحساء كما يروى في لقائه بصحيفة الجزيرة لأجل طلب الرزق، وكان ابن عمه يدرس في مدرسة الهفوف، وكان عبدالمحسن المنقور يقرأ المقررات المدرسية في منزل ابن عمه وينقل ما يجده في دفاتر ابن عمه، وبهذا تعلق بالمدرسة واشتدت رغبته في الانضمام إلى هذه المدرسة التي تعد أول مدرسة في الأحساء. ودرس عبدالمحسن في هذه المدرسة وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1362ه، وعين وكيل مدرس في مدرسة الهفوف، كما يروي هو إلى جانب عمله كاتب في معتمدية المعارف، فعبدالمحسن المنقور من رواد التعليم بالمملكة منذ عام 1362ه في الدولة، وقبل الثانوية تعين معاوناً لمدير المدرسة الابتدائية التي درس فيها وذلك عام 1368ه ثم مديراً لها عام 1369ه وفي عام 1373ه تعين مديراً لثانوية الأحساء مع إشرافه مديراً لمدرسة في الأحساء لتعليم اللغة الإنجليزية. وهنا يتذكر الأحسائيون جهوده التعليمية في الأحساء والرقي بالتعليم حسب الإمكانات المتوفرة لديه، يقول د. سعد الناجم في مقال له عن المنقور: الأحسائيون يذكرونه كمربٍ قدير عاش بينهم سنوات وشارك في بناء صرح التعليم في بلادنا -انتهى كلامه من جريدة اليوم-، ويتذكر محمد العبدالهادي في كلمات رثائية عندما توفي المنقور قائلاً: عرفت الفقيد عندما كنت طالباً في المرحلة الابتدائية أستاذاً للرياضيات ومن ثم مديراً للمدرسة فكان معلماً وأخاً لطلابه بحكم السن، كما كان معلماً مثالياً متمكناً من مادته مثقفاً وخطيباً جيداً يشد انتباه سامعيه -انتهى كلامه-. مكتشف المواهب لم يكن الرائد التربوي والمعلم عبدالمحسن المنقور كلاسيكياً في درسه لتلاميذه، وكذلك في إدارته المدرسية سواء المدرسة الابتدائية أو الثانوية، بل كان متجدداً يواكب الزمن الذي يعيش فيه من أساليب تربوية تعليمية، حتى أنه كان يقيم مهرجاناً آخر كل سنة دراسية يوم إن كان العام الدراسي سنة كاملة لا يفصلها أي إجازات، ففي ختام كل عام دراسي يعقد احتفالاً في المدرسة يدعى إليه وجهاء وأعيان الأحساء وأولياء أمور التلاميذ تعرض فيه أنواع من الفقرات الثقافية والأدبية والاجتماعية، وكانت هذه المهرجانات جديدة على الأهالي، لكنه بفكره التربوي أراد أن يعرف الأهالي أن المدرسة ليست فقط تعليم وتلقين، بل إن هناك نشاطات أخرى تكشف مواهب هؤلاء التلاميذ، فالمنقور مكتشف مواهب التلاميذ. نصح وبساطة وفي مقال آخر يقول تلميذه الكاتب الصحفي والرائد عبدالله الشباط: كانت علاقته مع طلابه صديقاً وأخاً يتعامل معهم ببساطة الأخ وعطف الوالد ونصح الصديق، لا يضيق ولا يتعكر مزاجه إذا اتضح أن أحد كبار الأجسام في الصف لم يفهم شرحه للدرس، فيضطر معلمنا -رحمه الله- تكرار الدرس مرة أخرى وثالثة ورابعة حتى يتأكد أن جميع الطلاب ألموا بذلك الدرس فهماً وتطبيقاً. ويروي د. علي بن عبدالعزيز العبدالقادر ذكرياته مع المنقور عندما كان تلميذاً في مدرسة الابتدائية قائلاً -فيما معناه-: إنه كان في المدرسة الثانوية بالأحساء وكان مديرها عبدالمحسن المنقور وكانت الثانوية تمنح كل طالب مكافأة مئة وخمسين ريال وبسبب الظروف اضطر العبدالقادر لترك المدرسة، فلما علم المنقور استدعاه وقال له سوف أضاعف لك المكأفاة يعني سوف يدفع له 300 ريال وأمام هذا الموقف يقول العبدالقادر كدت أتراجع عن قراري، لكني شرحت له أن المكافأة مهما بلغت فهي فلن تدوم، وكان هذا الموقف التربوي والإداري يترجم حرصه وؤخلاصه وكرمه وتميزه التربوي، لقد أشعل في نفسي جذوة الطموح لمواصلة الدراسة حتى النهائية وقد تحقق الهدف ولله الحمد. ويقول أيضاً د. العبدالقادر عن أستاذه المنقور: كانت المدرسة الابتدائية والثانوية في عهده شبيهة بالجامعة، حيث تقام الندوات والحفلات والمناظرات والنشاطات الثقافية الذي ربما يفوق المستوى الجامعي حالياً. تنظيم وتجهيز وكتب د. محمد بن عبداللطيف الملحم -أحد تلاميذ المنقور- مقالاً وفائياً وثائقياً أفصح عن ماضيه وعلاقته بالمنقور أستاذاً ومعلماً ومربياً وموجهاً، وسرد ذكرياته مع المدرسة الابتدائية بالأحساء والأجواء التعليمية فيها، مجسداً هذه الصور الماضية التي لا تمحى من ذاكرة د. الملحم، يقول: عرفت هذا الرجل الرمز عن قرب لأنني أحد طلبته في مدرسة الأحساء الابتدائية، وطلبة المدرسة وأنا منهم كانوا يحترمونه بل يهابونه وينفذون توجيهاته، وكان يبتسم لهم في حالة الرضا، وكان يتجهم بوجهه أمامهم عند اللزوم، كان قوياً ولكنه لا يعرف القسوة، وكان متواضعاً لكن دون ضعف، كان المنقور مدرساً ومن ثم مديراً مهام كثيرة ألقيت على عاتقه في مدرسة كانت وقتها تكتظ بالطلبة الذين سجلوا فيها من كل حدب وصوب من الأحساء وخارجها. ويُعد المنقور حسب جهوده التي بذلها في نشر التعليم في الأحساء من أبنائها البررة، أحب الأحساء كما لو كانت مسقط رأسه، وأحب أهلها، ويذكر د. الملحم عن المنقور أن المدرسة في عهد إدارة المنقور وفي عهد رفاقه لها فقرات رائعة، سواء من حيث التنظيم أو التجهيز المتواضع، أو تعويد الطلاب على الدرس والتحصيل حسب الإمكانات المتاحة آنذاك، كما بذل جهوداً مع المسؤولين في سبيل تذليل الصعوبات التي واجهت المدرسة ومنها شح المال وضيق ذات اليد، وكان يحدوه في عمله الإخلاص والرغبة في نشر التعليم بين طلبة ذوي حيوية مبكرة نضجت بها نفوسهم، ناهيك عن الوفاء منه لمدرسة سبق أن وضع العلم فيها، ويذهب د. الملحم في رواية قصة المنقور أنه منذ أن حل طالباً بالأحساء حتى خرج منها إلى بيروت باذلاً نفسه ووقته للتعليم، وحينما يوثق التعليم النظامي بالأحساء فلابد أن يذكر المنقور كأحد أركان التعليم الحديث بالمنطقة الذي لم يبخل بأي جهد مادي ومعنوي نحو التعليم. ملحقاً تعليمياً وفي عام 1375ه رحل عبدالمحسن المنقور من الأحساء بعد عقدين من الزمن فيها إلى بيروت، حيث تم تعيينه ملحقاً تعليمياً في بيروتودمشق، ومن ذلك التاريخ بدأ المنقور في عالم آخر من عالم الدبلوماسية حيث كان المسؤول في السفارة السعودية في بيروت عن الطلاب السعوديين الذين يدرسون في المعاهد والجامعات في لبنان وسوريا، وهنا كانت شهرته في بيروت وعرف كرمه وأريحيته وعمت شهامته ومروءته لمن قصده طالباً المساعدة أو طارحاً مشكلته سواء من الطلاب السعوديين أو من غيرهم، فالكريم الشهم لا يفرق بين الناس. وتحدث محبو المنقور والذين صحبوه عن كرمه وشهامته النادرة ومروءته الفذة لمّا كان ملحقاً تعليمياً في بيروت، لقد أجمع كل من كتب عنه في الصحف حينما توفي أنه كان يبادر ويسارع إلى إكرام ضيوفه حينما يعلم بمقدمهم في بيروت، فكانت هذه الخصلة من أعظم خصاله التي تميز بها وهي الكرم والجود والسخاء لا يختلف في ذلك اثنان، وهذا فضلاً عن مروءته وشهامته، حتى أنه أحياناً يكرم أكثر من ضيف في وقت واحد وفي مكان مختلف، قائماً بالواجب الذي ألزم نفسه به ولم يلزمه أحد. إكرام الضيف وكان عبدالمحسن المنقور مشغولاً بإكرام الضيوف مع أعماله الرسمية المتعلقة بالسفارة السعودية، وكذلك حل مشكلات الطلاب في أسرع وقت ممكن، وكان وقته موزعاً بين السفارة وضيوفه خارج السفارة، وامتدت علاقاته مع رجال القلم والصحافة والأدب من لبنان وسوريا والعراق وغيرهم من السلك الدبلوماسي العربي، يقول الأديب والرائد الصحفي سعد البواردي عن صديقه المنقور في مقال له: لم يكن ملحقاً عادياً، كان أنشط من سفير، وأجدر من قام بأعمال السفارة، طاقة مشبوبة وحيوية لا تهدأ، يستغرقه عمله ليلاً ونهاراً، ويستغرق عمله باقتدار دون كلل ولا ملل، أبناؤه الطلبة يجدون فيه رعاية الأبوة، والعاملون معه يلقون فيه عناية الأخوة، له مع مطار بيروت كل يوم لقاء يودع مسؤولاً أو زميلاً أو صديقاً، وله مع مطاعم بيروت علاقة استضافة لكل من زاره أو علم به، كان كريماً إلى درجة إنهاك الجيب، وكان جلداً صبوراً إلى درجة لا يتحملها الآخرون لمن واجهتهم التجربة نفسها والموقف نفسه. ختام الرحلة ويوم أن عاد عبدالمحسن المنقور إلى وطنه ليحتل منصباً آخر كان خالي الوفاض، فلا مال عنده، قد أنفق برضاه كل ما يملك، بل وتحمل المزيد من الدين دون أن يكشف سره لأحد ولا شكوى لأحد، الرجال الكبار لا يكشفون ولا يشتكون ولا يتأسفون على عمل خير قدموه ولا ينتظرون مثوبة لقاء ما أعطوه. يقول د. عبدالعزيز الخويطر عن المنقور: كان ينفق -رحمه الله- أكثر مما تتحمله ميزانيته، عرف الناس عبدالمحسن عن قرب ولمسوا أفضاله واعترفوا له بالمعروف الغامر عندما كان ملحقاً ثقافيا في بيروت، كان أباً للصغير وأخاً للكبير، يعطف على التلميذ الدارس ويرعى الطالب الباحث -انتهى كلامه-. وظل المنقور في بيروت ملحقاً ثقافياً وتعليمياً طيلة عقدين من الزمن حتى تعين أخيراً وكيلاً للحرس الوطني للمنطقة الشرقية، واستمر في هذا المنصب حتى تقاعد، ليتخذ مدينة الدمام سكناً له ولأسرته، وأصبح من وجهاء المنطقة وأعيانها، بل هو من أعلام الوطن الذين يفخر بهم، وهو شخصية حاضرة قدمت الكثير من العطاء الوطني التعليمي والدبلوماسي. وبعد هذا العمر الزاخر لكل عطاء وكرم وجود وإحسان ومعروف ومكارم أخلاق رحل عن عالمنا الكريم الجواد الرائد التعليمي والدبلوماسي الفذ عبدالمحسن بن حمد المنقور في عام 1427ه. في الختام أشكر الباحث الفاضل ناصر المنقور على تزويدي بمعلومات عن شخصيتنا، وإمدادنا بالصور له، كذلك أشكر المهندس عادل بن عبدالمحسن المنقور على تعاونه معي حيث زودني بمعلومات عن والده وصور له. عبدالمحسن المنقور في مطعم بلبنان مع ضيوفه المنقور اشتهر بالكرم في استقبال ضيوفه وهنا في منزله بلبنان المنقور في أحد الفصول الدراسية بمدرسة الأحساء مُلقياً درساً عبدالمحسن المنقور متوسطاً أخويه ناصر وسعد صلاح الزامل