من لطائف تسمية السفر سفراً أنه يُسفر عن أخلاق الناس ومعادنهم ومشاعرهم وحقيقة علاقاتهم وشيء من طموحاتهم وأهدافهم ومبادئهم! وربما أسفر عن قدر الناس عند بعضهم بعضاً، وأثر وجودهم قريباً منك أو بعيداً عنك. وكذا مكانة المكان والبيئة التي تعيش فيها بمكوناتها المختلفة ودوائرها الصغيرة والكبيرة. حتى الشارع الذي تمر به كل يوم -حين تسافر- له في النفس مرتكز لا يغيب. وقد اعتاد كثير من الناس أن يكون السفر إحدى محطات الحياة التي يمارسون فيها احتياجاتهم المتنوعة؛ فهناك من يسافر للدراسة وطلب العلم، وآخر للتدريب وثالث للوظيفة ورابع للاستشفاء، وثمة من يسافر لزيارة أحد أولئك أيضاً، ومنهم من يسافر صلة لرحمه أو استجابة لدعوة أو القيام بواجب عزاء أو حمل رسالة مكتوبة أو منطوقة. ومنهم من يسافر للعبادة كما في الحج والعمرة، أو مرافقة قريب أو عزيز أو صديق، ومن الناس من يسافر للسياحة والتنزه والراحة والاستجمام والتعرف على أماكن متفرقة من العالم ورؤية آيات الله في الآفاق. وأحياناً تجد نفسك في بيتك وموطنك ولكن روحك تسافر مع أحد أولئك الذين حملوا أمتعتهم ليقوموا بإحدى مهمات السفر، وتركوك تتابع أجواءهم وتعد الأيام والليالي لعودتهم! أن تسافر روحك وجسدك باقٍ في مكانه حالة شعورية يعيشها أولئك الذين جعلوا قلوبهم وطناً لمحبيهم ومنحوهم تأشيرة البقاء مع خالص الود وصادق الدعاء. تجد نفسك دون مقدمات تتعرف على خصائص البلد -وجهتهم-، وتتابع درجات الحرارة فيها وربما مواقيت الصلاة أو أوقات الفطر في رمضان، كما يمكن أن تتابع أنت فعاليات محددة هي محل عنايتهم: معارض ومؤتمرات وأسواق وندوات، وربما دون أن تشعر تستيقظ وتنام في التوقيت نفسه الذي يتفق مع البلد الذي سافروا إليه! تشعر أن وجهتهم أصبحت محل عنايتك ورعايتك أنت وقد تبادلهم بعض لحظات الود من خلال مواقع التواصل التي تتيح المشاركة المكتوبة والمسموعة والمرئية! قد يشعر من حولك أنك لست ههنا! في حين تحس أنت أنك هنالك مع أولئك الذين استضافوا روحك لترافقهم في أسفارهم وعلى الرغم من جمال الشعور وروعة المشاركة وبهجة الإخاء وروعة الحب؛ إلا أن بعد المسافة بينك وبينهم تستمطر دمعك ويتسارع معها نبض فؤادك وربما خطفتْ النوم من عينك واستبعدتْ الأكل من ميدانك! أجمل ما في الحياة صديق صدوق يشاركك لحظات العمر الجميلة، وابن بار يسافر ويترك لك قلبه ويصطحب روحك معه، وعلاقة صافية متينة خالصة مترفعة عن الماديات تهديك ميثاق الحياة المشتركة في السراء والضراء. وود ثمين يشعرك أنك مركز الحب والاهتمام وروح تصطفيك لتقول لك بلسان حالها: أنت الوطن! وحينما تعود روحك تشعر أن حياتك بدأت تشرق شمسها من جديد، تمطر سماؤها ويختال وسمها ويفوح عطرها الأخّاذ، تزهر فيها الحياة وتينع ثمارها وتغرد عنادلها ويحتويك شذاها وينعشك نسيمها، وتحمد الله ذي الآلاء والنعم الذي جمع شملك بمن تحب.