الشاعر الفيلسوف التركماني الكبير نور محمد عندليب، المولود في ولاية داشوجوز التركمانية سنة 1660م، والمتوفى سنة 1740م، يعتبر علمًا إنسانيًا ليس على مستوى الأمة التركمانية فحسب، وإنما على مستوى العالم الإسلامي والإنساني، فقد حلق بشعره من المثنوي والملحون والنظم بعيدًا عن الحدود الضيقة إلى مدى ارحب، واستمد مصادره من تراث ضخم، هو التراث الإسلامي باكمله، على الرغم من تعدد قوميات هذا التراث، ولغاته، ومواقعه، وكذلك التراث العربي، لذلك فلا غرابة أن يحتل عندليب مكانة متميزة عند الجميع، ويتصف خطابه الشعري بالشمولية، ويتمكن من قلوب مريديه ومعجبيه بالصدق، وسعة الافق، ومتانة الاعداد، وقوة التأثير. الشعراء كثر في عالمنا، تنجبهم الشعوب والامم في كل زمان ومكان، ولكن قلة منهم يبقون في ذاكرة الامم لاجيال واجيال، تتردد اشعارهم على ألسنة الناس لأزمان طويلة، ويتحولون إلى رموز تشكل هوية ثقافية عظيمة. وهؤلاء القلة لا يتمكنون من تلك المكانة بسبب أن الكلمات الشعرية الجميلة، او الاخذ بمعايير الصياغة الشعرية، وانما بما يملكون من مخزون ثقافي ومعرفي هائل، وخلفيات ثقافية وتراثية كبيرة، يثرون بها كلماتهم، وتتجسد في اعمالهم ودواوينهم الشعرية، وفضلًا عن ذلك بمقدراتهم اللغوية للتعامل مع مصادر الثقافات الاخرى. ان الشاعر الفيلسوف نور محمد عندليب واحد من اولئك الشعراء الذين خلفوا وراءهم اثرًا كبيرًا في التراث الانساني، وهو عامل من عوامل التواصل الثقافي بين الشعوب الإسلامية والعربية من خلال ما كتب، وما احتوت دواوينه الشعرية واناشيده ونظمه من موضوعات، وما ترجم من رمزيات في الثقافة العربية إلى اللغة التركمانية في أطر أدبية رفيعة. برع الشاعر في صياغة أشعاره على لونين: الاول: لون المثنوي، وهو نظم فارسي يكون بناء القصيدة فيه معتمدًا على بحر واحد، وتتوافر لكل بيت من القصيدة قافية خاصة تتفق مع الشطر الاول من البيت. الاخر: لون الدستان، وتعتمد على صياغة قصة ملحمية على هيئة نشيد ملحون، تتقبله العامة، ويتم تداوله بسرعة بين الناس ويخاطب العامة. واشتهر هذا اللون في ثقافات عدة، ومنها ما يعرف في بلاد المغرب العربي بالملحون او الاناشيد الشعبية. الاعداد الاولى لعندليب كان في المدارس التقليدية الإسلامية التي كانت تعج بها المراكز الإسلامية وحواضرها في القرن السابع عشر الميلادي، فقد درس في مدارس خيوة، وفق النظم التعليمية التي كانت سائدة في ذلك الزمان، حين كان طلاب العلم يلتفون حول شيوخهم، يقرؤون عليهم امهات المصادر ويحصلون على اجازات في الرواية والاقراء والسماع. وكان العندليب في تلك الحقبة مريدًا لعدد من شيوخه، ولم يكن تحصيله منحصرًا فيما كان يتلقى من علوم، بل كان ملازمًا لشيوخه، قريبًا منهم، وهذه وطدت بينه وبين شيوخه حالة من القرب والتواصل السلوكي ونكران الذات، واوقدت في نفسه جذوة حب العلم واحترام العلماء، والبحث المستمر عن الحقيقة من مظانها الاصلية. ومن المصادر ما اشارت إلى أن الشاعر عندليب قد توافرت له فرصة الذهاب إلى بغداد حيث كانت تعج بمدارس فكرية شتى، ومناخ جيد للتواصل مع العلماء، وهنالك اخذ من العربية ومن مصادرها ما اقترب به من تعرف اجواء، ربما كانت مختلفة عما كان عليه الحال في بلاده وفي مدارس خيوة، الامر الذي وسع من امكاناته المعرفية إلى حد كبير، وقربه من التواصل مع قضايا كانت تدور في هذا الجزء من العالم. ومع اعترافنا بان القرن السابع عشر الميلادي لم تكن به حالة حواضر العالم الإسلامي العلمية على مثل الحالة التي كانت عليها في قرون الحضارة الإسلامية الاولى من تقدم وازدهار، الا أن مناخًا تقليديًا ظل سائدًا في تلك الحواضر يتراوح بين ايجابيات وسلبيات فكرية عديدة. وفي خضم تلك الاجواء استمر عندليب في خوض تجربة ثرية جسدت تواصلًا مع معطيات ثقافية كثيرة نوردها فيما بعد، وفي اطار تحليل اعماله. ففي المراحل الاولى من حياته، كان عندليب مهتمًا بالفلاحة والنجارة، وهما مهنتان تتطلبان قدرًا من الجهد، وحسًا في الاداء، وقدرة على الابداع والدقة، وقد غرستا فيه ملكات وقدرات عملية كثيرة، انعكست على هيئة ابتداع آلات الري، وزخرفة جمالية في فنون النجارة التي كان يجيدها. وكان لحياته في مثل ذلك المناخ العملي بعد انساني تجسد في اشعاره الاولى التي كان يخاطب بها محبوبته جل (ازهار)، مطلقًا على نفسه اسمًا شعريًا جذابًا هو (عندليب). كان عندليب قريبًا من الناس، وبخاصة العامة من الفلاحين والمهنيين، يحس باحاسيسهم، ويشاركهم حياته الاجتماعية، ويمتزج بهم امتزاجًا كبيرًا قربه من عواطفهم، واستطاع أن يكون عن مجتمعه خلفية اجتماعية وثقافية هائلة، ساعدته في صياغة اعماله اللاحقة، وبخاصة تلك التي تحاكي المجتمع التركماني، ومنها، بل من اهمها ديوان Qguzanama وNisimi. نمت عند عندليب في تلك المرحلة من حياته تجليات صوفية تمثلت فيما كتب من قصائد وجدانية كان يوقعها تحت اسم مستعار هو (غريب) وهذه الكلمة كانت تطلق في الثقافة التركية على فقراء الحال والزاهدين ممن لا تهمهم امور الدنيا. اظهر عندليب حبًا كبيرًا لمجتمعه ومحيطه التركماني. فكتب ديوانه الشعري Oguzmana الذي سجل فيه وفاء وحماسًا لمجتمعه بشخوصه واحداثه ومواقعه وحملاته العسكرية وعاداته الثقافية وتراثه. فشخصية Oguzhan (أوجوزخان)، كانت رمزًا لشجاعة البطل التركماني وعدالته ووفائه لوطنه. وفي عمله بعنوان Nesimi قدم وصفًا لحياة الشاعر التركماني سيد نسمي الذي عاش ما بين السنوات 1370-1417م، وهذا العمل الشعري الذي تمحور على شخصية معينة كان له اثر كبير في انطلاقة عندليب الشعرية، فقد اتبعه بديوانين شعريين هما: - سعد بن ابي وقاص. - قصة فرعون. فشخصية الصحابي الجليل سعد بن ابي وقاص بن اهيب القرشي (توفى سنة 55ه/ 674م) كانت محل عناية الشاعر عندليب، اذ خصه بقصائد كثيرة احتواها ديوانه، متأثرًا بسيرته العطرة في التاريخ الإسلامي، فالصحابي سعد هو من افتداه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم احد بأبويه. فقد ذكر ابن اسحق: حدثني صالح بن كيسان، عن سعد، انه رمى يوم أحد، قال: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل، ويقول: ارم فداك أبي وأمي. وقول ابن عينية، عين يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قوله: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يجمع أبويه لأحد غير سعد. والصحابي سعد بن أبي وقاص كان أحد المبشرين بالجنة، وكان، رضي الله عنه، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال: أثبت حراء. ويوم قال: أثبت أحد، فإنما عليك نبيك أو صديق أو شهيد. والصحابي سعد رضي الله عنه كان مستجاب الدعاء، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه: اللهم استجب لسعد إذا دعاك. قالها ثلاث مرات. قصائد عندليب عن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه تجسد وتترجم خلفية تراثية ومعرفية كبيرة هيأت الشاعر لسبر أغوار شخصية الصحابي الجليل. وأحد الفاتحين لخراسان. ولا شك أنه اعتمد على مصادر تراثية كثيرة منها كتب الطبقات والتراجم، مما أهله للتأثر بشخصية دون غيرها. لذا نراه وقد صور لنا جوانب مهمة في حياة الصحابي الجليل تنقلت بين شهامته، وثرائه، واخلاصه للدعوة، وشجاعته، ومآثره، وشدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب الرسول له. اما (قصة فرعون)، فتمثل بعدًا آخر لفكر عندليب، حيث تجسد اطلاعا ثريًا لأحداث كبيرة في التاريخ، معتمدًا على خلفية تاريخية لعصر الفراعنة، وما صاحب ظهور نبي الله سيدنا موسى عليه السلام من أحداث كان مسرحها أرض مصر. ولا شك أن مصدره الأول كان القرآن الكريم، ثم المصادر التاريخية التي تناولت بالوصف عصور الفراعنة المختلفة في مصر. استفاد عندليب من الخلفيات والمصادر التي تجسدت في اشعاره ودواوينه الشعرية في كتابة اعماله المنظومة الأخرى وهي: - منظومة Babarvshen. - منظومة يوسف وزليخا. - منظومة مجنون وليلى. - منظومة زين العرب. - فالمنظومة الملحونة Babarvshen تعكس ثقافة عندليب الدينية والتاريخية، وتقديم شخصية الخليفة الرابع سيدنا علي بن ابي طالب رضي الله عنه في اسلوب ملحون، محلقا في جوانب عديدة من شخصية الخليفة علي رضي الله عنه في الحكم. والمنظومة ليست توثيقًا تاريخيًا لسيرة الخليفة، ولكنها عمل فني درامي يبتدع فيه الكاتب المواقف والأحداث. أما منظومة يوسف ووزليخا فهي عمل ملحمي رائع، استقرت جذورها الدينية والقصصية في الذاكرة الشعبية عند المسلمين. فسورة يوسف في القرآن الكريم تقوم على قسمين: القسم القصصي، والقسم الدرسي الحكمي. فالقصة تبدأ بالرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام ورواها لأبيه، ثم سفره مع اخوته، والقائه في غياهب الجب، حتى وصوله إلى بيت عزيز مصر، ومراودة امرأة العزيز له، حتى نهاية القصة بما احتوت من مواقف وأحداث، انتهت به إلى السجن وما أعقبها من أحداث في السجن، وخروجه مكرمًا متمكنًا من الأرض يتبوأ منها حيث يشاء. كانت سورة يوسف مصدرًا خصبا للكتابة الروائية بصور شتى، وكانت موضوعا ثريًا لعدد كبير من الاعمال التي اتخذت يوسف عليه السلام، وامرأة العزيز زليخا موضوعًا. وصيغت القصة نثرًا وشعرًا من عدد من المفكرين المسلمين والعرب. وكانت موضوعًا لعدد من المثنويات التي صيغت على هيئة حكايات رمزية ذات دلالات اخلاقية ودينية. وبالرغم من أن حكاية يوسف عليه السلام وزليخا كانت موضوعا عند عدد كبير من الشعراء والرواة الا أن عمل نور محمد عندليب قد نال شعبية كبيرة في الأدب التركماني، وشكل نموذجًا كانت له آثاره على الأدب التركي بعامة. وكانت مجالًا لعدد من الدراسات النقدية التي رأت في شعر عندليب تجديدًا أثرى به صياغات فن المثنوي من حيث التطبيقات العروضية وابتداع آليات جديدة في التربيع والتخميس والتسديس في صياغة الأبيات الشعرية. ملحمة مجنون ليلى الشعرية التي كتبها عندليب تجسد ثقافته وقوة بنيته الفكرية في هضم التراث العربي الشعري في مراحل ازدهاره، ومجنون ليلى نموذج للحب والعشق العذري الذي تولد في مراحل ازدهاره، ومجنون ليلى نموذج للحب والعشق العذري الذي تولد في العصر الأموي، وحفل بصور أسطورية كثيرة، تعبر عن حب قيس بن الملوح لفتاته ليلى بنت سعد بن كعب بن ربيعة. ومناخ ذلك الحب العذري كان مناخًا عربيًا بدويًا ملتزمًا بالقيم النبيلة والتقاليد العربية. لذا فلا عجب أن نرى تأثير شعر مجنون ليلى في كثير من الشعراء والأدباء في العصور اللاحقة، منهم شاعرنا التركماني نور محمد عندليب. ان أجواء مجنون ليلى الأصلية مليئة بالصور الخيالية والأحداث الأسطورية الرائعة التي تستهوي العامة وتستلهم خيالاتهم مما جعلها في مكان مميز عن منظومة الأدب الشعبي الكلاسيكي العربي، ثم امتد تأثيرها إلى آداب أخرى مجاورة كالأدب التركي والفارسي والهندي. وقد بلغ مجموع الشعراء الذين نظموا مجنون ليلى من الاتراب ما يزيد على ثلاثين شاعرًا خلال القرون من الخامس عشر حتى التاسع عشر الميلادي. إن أحد الإبداعات المهمة لعندليب في بناء منظومة مجنون ليلى هو تطويعها وتقريبها لأذهان التركمانيين بعاداتهم وتقاليدهم، مما جعل العمل قريبا من الذهنية الشعبية التركمانية، مستساغًا من العامة. واستطاع عندليب أن يترجم مفاهيم الحب العذري، والتضحية، وصور القيم الإنسانية النبيلة التي حفلت بها مجنون ليلى، وان يقدمها إلى الأدب الكلاسيكي التركماني بشكل رفيع ومؤثر، حتى غدت الأسطورة جزءًا من نسيج الذهنية الاجتماعية، وأصبح من المألوف عند التركمان العامة أن يصفوا المحب العاشق بمجنون ليلى. أما أحد أهم الهامات الشاعر نور محمد عندليب الإبداعية فقد تمثلت في منظومة (زين العرب) التي كتبها بروح مبدعة متفردة ومقدرة روائية متميزة، تدور أحداثها الروائية في تصوير مظاهر الحب بين أبطال الرواية زين العرب ومحمد بن الحنفية، وتؤطر وقائعها قيم إسلامية رفيعة في التعامل. ولا شك أن كتابة هذا العمل يجسد التجربة والخلفية التي كانت عند عندليب، فضلًا عن الملكة الفنية في الحبك القصصي مما جعل العمل واحدًا من الأعمال التراثية المهمة في الأدب التركماني. خلاصة القول أن الخلفيات الثقافية والدينية عند الشاعر عندليب كانت من القوة والإعداد بالمدى الذي مكنه من أن يتبوأ مكانة كبيرة ضمن قائمة اعلام الأدب التركماني المتميزين. وفضلا عن ذلك فإن خلفياته الثقافية الإسلامية والعربية قد جعلت منه أدبيا وشاعرًا يحتل مكانته في الأدب التركي بخاصة، والأدب الإسلامي والعربي بعامة. لقد كانت أهم مصادره القرآن الكريم، والحديث الشريف، والتفسير، وأمهات مصادر الأدب بما في ذلك الشعر والرواية، ومصادر التاريخ الأساسية، وكتب الطبقات والرجال. ان الشاعر الفيلسوف نور محمد عندليب علم بارز، ليس للأمة التركمانية فحسب، ولكنه من أعلام الأدباء والشعراء المسلمين بعامة، فقد بنى جذورًا من التواصل والتلاقح الثقافي التي عكستها أعماله العظيمة. إن من حقه علينا أن نفخر به جميعًا، وأن نجتمع من أجله، وأن نحيي أعماله بدراسات علمية جادة، وأرجو أن يحظى بتكريم خاص، وأن تسمى احدى المؤسسات الاكاديمية الكبرى باسمه اعترافًا بإبداعاته، وتقديرًا لمكانته، وتسجيلًا لفضله في مد الجسور بين الثقافات الإسلامية. (*) أستاذ علم المكتبات والمعلومات، أمين عام موسوعة مكةالمكرمة والمدينة المنورة والمحرر الرئيس