يطرح هوسرل فكرة مهمة لتقعيد اللغة كي تصبح كونية، فتُثبِّت أشكال المعنى الضرورية وتعمل على إيضاح ووعي اللغات التجريبية [التي تُعد تطبيقات مشوشة للكلام الجوهري]، وقد استفادت المدرسة التداولية من فكرته هذه وطورتها. بنية فكرته تنطلق من مسلمة مهمة هي؛ الكلام هو نتاج الوعي، وبالوعي تقوم اللغة، فالكلام المستعمل هو حالة خاصة ينتج مجموعة من الإشارات المرتبطة بمعنى لغوي محدد من خلال صلات متواطئة ومحتملة، وبهذا يصبح الكلام مجرد بديل أو مساعد للذاكرة، أو هو في أحسن حالاته وسيط اتصال ثانوي، وهذا ما سيستثمره السيميائيون لاحقاً في تطوير مدرستهم. هوسرل كان مهتماً باللغة ليس لذاتها، بل لفهم الذات المتكلمة وكيف تبني وعيها، واللغة تاريخية، وصلت إلينا عبر سيرورة طويلة لا نرى إلا تداوليتها، فتصبح اللغة معهوداً ذهنياً، والظاهراتية تسعى إلى تنحية كل المعهودات كي يستقيم منطقها، ولن يطيل هوسرل في حل هذه المعضلة بل سيجعلها مفتوحة، [يقال إن موته هو السبب في عدم إكماله لمشروعه اللغوي]، وستأتي فلسفة اللغة والسيميائية والتداولية لتكمل هذا المشروع وتحوله إلى تطبيقات عملية. واللغة تداولياً ستكون موضوعاً للتفكير، وموضوعاً للأنا، وسيشدد دوسوسير على ذهنية وتعالي اللغة، وأنها تتكون في الإدراك فتتشكل الصور الذهنية ثم تصبح واقعية بعد اكتمال الدال والمدلول واجتماعهما في معنى واحد، لكن بيرس سيخفف هذا التجريد ويجعل اللغة بنت الواقع وعونه في تشكيله. عند النظر في اللغة وما يعتريها من نقص وزيادة، وأفكار ونظريات، سنقتنع بأنها كائن حي يلزمه التطبيب المستمر كي يبقى صحياً قوياً فلا يطول مرضه كي لا يموت، ويستحيل فعل هذا وأهل اللغة كسالى، فاللغة تعبير عن وعيهم وحالتهم النفسية، وهي كذلك تمدهم بالقوة والتجسير الاجتماعي بينهم، فهي فاعلة ومفعولة في وقت واحد، وهذا دليل حركيتها ونشاطها فلا تقبل إلا من يشاطرها هذا النشاط والحركة والانفتاح على الجديد.