يظل محمود درويش الأصدق حين قال: "يقول لي جدي دوماً.. بأنّ حيفا أجمل مدن العالم! أنا لم أرَ حيفا... وجدّي لم يرَ أي مدن العالم!" (السراة): هي بسملة الضياء، وفاتحة الشروق المبكر، أول طائر من حولنا، في الأرض يغنّى للسماء، صباحها فاكهة للغناء، وليلها يلمع مثل الذهب أُسّر لها نجواي: (أعدّي لي الأرض كي أستريح فأني أُحبك حتى التعب)، يستريح فيها البنفسج، تُسابق ضوء الصباح، لتوقظ تلك الجميلة أحلامها، الباحة مدينة مصيرها الفن، وسيّد شوارعها الرذاذ، تُولّد في عشاقها رغبة عارمة لتحويل كل لحظاتها عيداً بمذاق الجمال الغيم يمنحها مذاق الحلوى والضباب يجعل منها تهاليل الزمان الآتي تُعير العصافيرَ ألوانها، وتمنح ورد البساتين أعطارها، هي (أيطلا ظبي، وساق غزالة، تغريد شحرور، وومض الشمعدان)، جهود تُزرع في أرجائها معنى السحر، في ليلة الاحتفاء بالتأسيس في قرية الأطاولة التراثية، كان الفن والأزياء واللوحات والمسيرات وصوت الرحى وقرع الطبول وأهازيج الحقول، يراقص حفيف الرحى صوت حناجر الأمهات، ورائحة البخور والحناء على أكف الصغيرات، تتآزر لتشكل المشهد وكأنما كل شيء يدعو للاحتفال حيث لا تشيخ هنا الأغاني، لم تكن مجرد لوحات وجداريات بل صناعة لمشروع الاستدامة والأنسنة عبر مساريب الفن الراقي والتراث الباعث على الجمال، في القرية القديمة بالأطارلة؛ عشنا فردوس الدقائق، لسان الحاضر وأصوات البعيد من الزمان، استحضر أبناء الريح (أهالي الأطاولة) حجارة "لسبوس" التي تَبكيها "طروادة"، جلبوا لنا دهراً يضَمَّ القادمينَ العالقينَ في قواربِ "أُوديسيوس" في محيط القرية وعلى وقع خطواتنا وشغف الاحتفاء كنا نرى وجوهًا مُتلهّفةً ومشاهد من "فُلك نوح" وطوفانٍ مسالم من الناس غير صالح للغرقِ... يُحيل صوت العشي أزرق، دوماً كانت مهرجانات الأطاولة التراثية حلمٌ من حجر، تحولت مع الوقت رمزاً نراه وشيئاً شبيها بحلمٍ حضر والفارق الصعب بين السراب وبين المطر، دوماً في حضرة أبناء الريح استحضر بعضي الراحل وما تساقط من الروح والطفولة أتحول كمن يخرجْ من الكتب القديمة. وحين حلّ المساء علّقت أزقّة القرية فتنتها فوق مساريب العهد القديم وكأن الأماكن لم تغير جلدها. مجبرُ أن أحب الأطاولة وأهلها مرتين، مرة لأنهم استنطقوا لغة البئر، ومرة لأنهم غيروا مجرى القمر هناك كنت أحني لهم قامتي لأننا صافحنا في فعلهم (همةً من صخر). ناصر بن محمد العُمري