المسرح الحديث مرتع خصب لاستراتيجية الخطاب الضمني، ورواد هذا الخطاب يرونه ضرورياً لأنه كفيل بإشباع حاجة ولوج العمق. الكاتب والباحث المسرحي «ياسر مدخلي « في نص (الإنسان والآخر) يشذ عن أغلب القواعد في الكتابة الدرامية حين يدخل مختبر الكتابة بنص مسرحي يولد في أجواء منصة تويتر ليفيد من خصائصها التي تتميز بقصر حواراتها لإنتاج شكل كتابي بتنويعات خفية الصنعة فتأتي الحوارات قصيرة وبرقية وسريعة ومكثفة ولها معاني الحسم والرغبة في الانتصار وختم الحوار، ومع هذا يتواصل الحوار مثل طلق الرصاص في (التسارع والتتابع والإصابة والإثخان). في نص (الإنسان والآخر) شخصيتان تقذفان بعضهما، بسخرية مطعمة وزاخرة بالتضمينات على امتداد العرض؛ أما الصمت فيفرضه الكاتب فرضاً ليحضر 22 مرة على امتداد النص حتى بدا لي وكأن (الصمت) شخصية ثالثة في هذا النص الديودرامي البناء. ليس من جدال أن الصمت لغة لها خصائصها التعبيرية على مستوى الأدب في جميع أجناسه، وعلى مستوى الفنون في خصائص بنائها، فيما الدراما من أكثر الأجناس الأدبية التي تحتاج إلى الكلام، لكن يظل الصمت لغة نصية يمكن أن تقول الكثير. وحين نجد نصاً مسرحياً يفرد للصمت كل هذه المساحة في بنائه سنكون أمام سؤال عريض عن دلالات الصمت في هذا النص المسرحي؟ وقد كان هذا مدخلاً للتأمل فيما أتاحه الصمت من معنى في هذا النص المغاير. من المؤكد أن الصمت في المسرح تم توظيفه كمنهج وشكل مسرحي من خلال «البانتومايم»، لكن الصمت في مسرحية (الإنسان والآخر) جاء بدلالات مختلفة، حيث ظهر ليكون فاصلة بين الحوارات وهذا ما جعل للصمت معنىً درامياً تنطوي عليه عناصر العمل المسرحي، حيث تتخذ الصيغ الحوارية مع نوع الصمت شكلاً مهماً لتجسيد التصادم، أو لحظة إشارية للفعل والموقف والإرادة. وبفرز أنواع الصمت وأشكاله، فإنه - أي الصمت - قد يجيء صريحًا، وقد يجيء صمتاً خفياً، مع سيل من المفردات، وقد يجيء الصمت بين المفردات، وآخر إلى جانبها وهذا ما حددته المشاهد المسرحية في النص والتي تمخضت عنها عدة نتائج جاءت على النحو التالي: * تعددت مدة الصمت في النص المسرحي بين (صمت) و(صمت طويل). * جاء الصمت علامة بنائية من عناصر البناء اللغوي التعبيري والحواري حيث ظهر في تلك الحوارات التي تكون الجمل الملفوظة سابقاً لا تعبر بشكل كافٍ عما يجيش داخل صدر الشخصية فيحضر الصمت ليتيح لها فرصة الاستمرار في الحوار بمزيد من التهكم والسخرية. إذاً فالصمت هنا جاء ليشترك في بناء المسرحية وعناصرها (الشخصية، الحبكة، الحوار، الفكرة- الحالة النفسية) وبناء علاقاتها. كما أنه إلى جانب الكلام كان استثماراً لما لا تقوله الشخصية وما لم تسمح به الحوارات القصيرة التي فرضتها طبيعة نص (تويتري) الملامح. وهذا شكل من أشكال وعي ياسر مدخلي بخصائص المسرح المعاصر الذي يتعامل مع الصمت «كاستراتيجية لتوليد المعنى» ويفيد من قدرة فن المسرح على الالتقاط من جوهر التجربة البشرية ما هو غير منظور فيسلط عليه الضوء ليصبح وجوداً بارزاً ومؤثراً، وليأخذ بعداً فلسفياً. في هذا النص اشتغال مسرحي يمكن وصفه بالتجريب في الكتابة المسرحية ليس فقط في جانب استثمار خطاب الصمت بل كذلك في مجال الاشتغال على تجربة كتابية من خلال ابتداع (الإهداء) كتقليد غير شائع في كتابة النص، هذا الإهداء يذهب هنا إلى الكرسي الدوّار في إشارة ضمنية للفعل الذي يحدثه الكرسي حيث يرتبط أحياناً بمعاني الظلم والتجبّر وغياب الضمير والوصولية وما يسبغه على من يجلس عليه من جبن وتملق لتكون هذه الحالات مدخلاً نحو ابتداع ما يسميه «المقدمة» وفيها يستغل مفردة (الجبن) ليعزف على إحالاتها وتنويعاتها اللفظية صانعاً من معانيها مقولة تلخص عصارة النص: (هناك من يأكل الجبن، وهناك من يمارسه) أما تعريفه للشخصيات فمحدد ومباشر بتوصيفات جامعة. (الإنسان والآخر) نص مسرحي يمكن أن يندرج ضمن ما يعرفه الدكتور نبيل بهجت رئيس قسم المسرح بجامعة حلوان ب (المسرحيات القصيرة) أو (الحواريات الدرامية) وهي تلك التي يمكن أن تكون مسرحاً مكتمل الأركان حتى لو لم تعرض على خشبة المسرح. ياسر مدخلي