الراصد للحراك الثقافي في المشهد السعودي سيجد أن المؤسسات الثقافية غير الرسمية تسجل حضورها بشكل نوعي متجاوزة بذلك الدور التقليدي الذي كان ينحصر في الملتقيات والصالونات الأدبية، وهذا الحضور لتلك المؤسسات يتناغم مع ما ترتكز عليه رؤى وتوجهات وزارة الثقافة في تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030. ومن بين المؤسسات الثقافية الفاعلة «مؤسسة معنى الثقافية»، وفي هذا الحوار مع مالك ومؤسس منصة «معنى» نتعرف على أهداف استراتيجية هذه التي حصدت إعجاب المتابع محليا وخارجيا: * عندما أعلنت مؤسسة «معنى» عن استراتيجيتها الخمسية وهي استراتيجية طموحة، ولكن قد تبدو عند البعض في نكهة الحلم، لذا الكثير من المهتمين والمتابعين يرغبون في التعرّف على مسارات وآليات هذه الاستراتيجية، وكيف سيتم تحقيق كل ذلك؟ * في البدء، سأقول: قوّة المعرفة؛ تكمن في توظيفها. لكوني مهتم بالمجال المعرفي، لطالما رغبت في خدمة وتوظيف المعرفة. ولذا حرصنا أثناء بناء مسارات هذه الاستراتيجية على أن تخدم المعرفة المتنوعة والشاملة، كما نأمل أن تمثّل خطوة أولى؛ نحو تطوير قِطاع النشر في مجال الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانية، والرفع من قيمة وجودة المعرفة في المملكة والوطن العربي. وقد اعتمدنا منهجية مرنة وشاملة، في الإعداد لهذه الاستراتيجية، والتي تضمّنت مبادرات ومشروعات ثقافية متعددة تخدم القطاع المعرفي، وتسهم في تحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030، من خلال تحقيق النمو في القطاع المعرفي وتحويله إلى صناعة منتِجة ومنافسة. تضمن إرساء مفهوم معرفي جذّاب للجمهور المحلي والدولي. وتقديم المملكة كمركزٍ عالمي لنشر المعرفة في محيط العالم العربي. واستندنا في بنائها على معايير عالية الجودة؛ لاستخلاص أفضل الممارسات المُتبعة من أجل صياغة استراتيجية شاملة للقطاع المعرفي. وأيضًا، أخذنا في الاعتبار متطلبات المرحلة في جميع القطاعات المعرفية، بما في ذلك القطاع التكنولوجي الحديث. * في بدايات حضور منصة «معنى» في المشهد الثقافي كان لها ملامح الخصوصية الثقافية، حيث تجلى الاهتمام بالحقل المعرفي الفلسفي، ولكن في معرض الرياض الدولي للكتاب حدثت أول مواجهة مع الجمهور، كيف تنظر لهذه المواجهة الأولى مع جمهور القُرّاء؟ وكيف وجدت التفاعل مع هذا النوع من الإصدارات؟ * كما توقعت «معنى» كانت المواجهة ودية جدًا ومثرية، حيث استقبل جمهور القُرّاء الكتب بحفاوةٍ بالغة؛ لما لها من أهمية ولكونها متميزة في مجالها، إذ حرصت دار معنى على أن تقدّم كتباً ذات موضوعات قيمة من الناحية العلمية والحياتية وجديدة على القارىء العربي، بتكلفةٍ منافسة غير ربحية. وقد سُعدنا جدًا بهذا التفاعل مع الكتب، في معرض الرياض الدولي للكتاب، كما في معرض القاهرة الدولي للكتاب مؤخرًا. وهذه مناسبة ثمينة؛ لنقدّم الشكر لقرِّائنا الأعزاء، ونتمنى لهم قراءات ماتعة مع إصداراتنا. * عنوانات كتب دار معنى المترجمة ذات طابع معرفي رصين وهي تتناغم مع ما يُنشر في المنصة، فما آلية اختيار هذه العنوانات، وما العوائق التي تواجهها الدار في ترجمة مثل هذه الكتب؟ * منذ البدء حرصت مؤسسة «معنى» على أهمية الاهتمام بالفلسفة والحقول المعرفية المتقاطعة معها، وبناءً على معايير هذا التناغم الرصين، حددت عدة آليات لتسير عليها دار معنى، وهي: أن يكون الكتاب مبتكرًا في مجاله كأن يسدَّ نقصَا معرفيًا فيه، وألّا يكون مجرد إعادة إنتاج واستعراض لكتب وآراء سابقة. أن يكون الكتاب صادرًا عن دار نشر مرموقة لها وزنها العلمي والأكاديمي، ولديها لجنة علمية محكّمة لاختيار الكتب وتحكيمها. وبالنسبة للكتب القديمة، لا بد أن يكون الكتاب من أمهات الكتب التي لها وزنها المعرفي في التاريخ الإنساني، أما الكتب الحديثة فلا بد أن تتوافر على مراجعات داعمة لها داخل المجتمع العلمي والأكاديمي. وفيما يخصّ نصوص الفلاسفة والمفكرين فيخضع اختيارها لمعيار أهمية المفكر ووزنه في تاريخ الفكر الإنساني. تكون الأولوية أيضًا، للكتب التي ترتبط بالحياة العملية وتساهم في الارتقاء بالإنسان نحو الحياة الطيبة. ونحرص على التكامل المعرفي والتنوع بين الكتب المنتقاة، وفقًا لتصنيف ديوي العشري لأقسام المعرفة. فيما يتم التركيز على الكتب البينية التي تستهدف خلق حالة من التكامل بين الحقول المعرفية المختلفة. ويجب ألاّ يحمل الكتاب قيمًا سلبية تعود على المجتمع الإنساني بالضرر، كالدعوة للعنف مثلًا، أو التمييز العنصري، وألاّ يكون مغرقًا في الإيديولوجيا. ليست عوائق بحدِّ ذاتها، بالمعنى الحرفي للعوائق، ولكن حرصًا من دار «معنى» لتجنب أيّ خطأ وارد، تمرّ الكتب بثلاث مراحل، من التدقيق والمراجعة، وأيضًا حرصنا على أن يكون التصميم ذو طابع مميز وهوية مشتركة حتى تخرج الكتب في أفضل صورةٍ ممكنة. * من أبرز المسارات التي أُعلنت في الاستراتيجية أكاديمية معنى للفلسفة، كيف ستكون ملامح هذه الأكاديمية، ولماذا كان الخيار بأن تكون أكاديمية رقمية؟ * سنعمل على أن تكون هذه الأكاديمية ذات ملامح عربية، لتدريس المقرَّرات الرصينة في شتى فروع الفلسفة، المقدَّمة من قِبل نخبة من الفلاسفة والمفكرين من أنحاء العالم. ستطلق مؤسسة «معنى» هذه الأكاديمية على مراحل، بحيث ستكون في العام الجاري 2022، بحالة (الانطلاقة التجريبية)، تقدّم من خلالها عدة محاضرات ذات موضوعات محددة لمجموعة من الفلاسفة، مسجلة مسبقًا وحصرية لمنصة «معنى»، وتنشر على موقع الأكاديمية. وبالتوازي تعمل على تغذية المكتبة بعدة كورسات مع فلاسفة آخرين، لنشرها مطلع العام المقبل 2023، وحينها سيكون الافتتاح الرسمي للأكاديمية، ثم ستُقدّم الكورسات برسومٍ رمزية. وستكون هذه الأكاديمية رقمية؛ لأن مستقبل العالم اليوم يتجه للرقمنة، والأهم هو حرص المؤسسة على مواكبة التطور التكنولوجي منذ البدء. * الكتاب الأدبي وتحديدًا الروايات المترجمة والتي تجد الرواج الأكبر من القارئ، لماذا نجدها غائبة عن مشروع دار «معنى»؟ * ليس تقليلاً من الأدب، إذ لا يخفى علينا أهميته في التراث الإنساني، ولكن «معنى» نجحت في خلق صورة ذهنية فلسفية رائدة لها في الشرق الأوسط، وبدأت تنمو أيضًا في الأوساط الدولية الأخرى ولها جمهور ثابت. ولا يخفى علينا وجود دور نشر محلية وعربية رائدة في هذا المجال أيضاً. ولكن ربما نأمل لاحقًا، في تحقيق استراتيجية «معنى» بخصوص نشر المواد المعرفية الإنسانية، أن نتوسع في نشر كنوز الأدب الإنساني الرفيع، المتقاطع مع شتى فروع الفلسفة. * مشروع «معنى» قائم على الاهتمام بالمعاصرة سواءً في الجانب الفكري أو الفلسفي، لذا السؤال إلى أيّ حدٍّ سيكون حضور التراث العربي الفلسفي في هذا المشروع؟ * لا شك أن لكل أمة تراثها الخاص، ولأهمية الحفاظ على هذا التراث، سنسعى لتحقيق التراث العربي الفلسفي ونشره؛ وذلك بتفريغ الوقت والجهد اللازمين لهذه الكنوز، وإزالة التراب ونفض الغبار عن هذه المخطوطات النفيسة التي بقيت في الأقبية ردحًا من الزمن، وجيلًا بعد جيل، ونأمل أن نكون خير خلف لخير سلفٍ، ممن سبقونا إلى هذا العمل الجليل، حتى يخرج تراثنا العربي الفلسفي في أبهى حُلّة. * مركز «معنى» للابتكار (مَناڤيرس)، قد يبدو هذا الاسم غامضًا للكثير، هل من توضيح لطبيعة هذا المركز؟ * طبيعة المركز ستتبع طبيعة الميتاڤيرس، وبتدشينه أصبح الأول من نوعه عالميًّا. سيُعنى المركز بالتطوير والابتكار، وسيكون بالمقام الأول مركز أبحاث لدراسة مدى إمكانية تطوير صناعة النشر من خلال تقنيات «البلوك تشين»، بالإضافة لتطوير الذكاء الاصطناعي في مجال الترجمة لخدمة اللغة العربية. وتأسيس مشروعات ثقافية واجتماعية تستفيد من إمكانيت العوالم الافتراضية الرقمية «الميتاڤيرس» أيضًا، تُقام فيها بيئة لأنشطةٍ ثقافية وندوات فريدة ومثرية، تتيح تبادل المواد المعرفية بشكلٍ لا مركزي عبر مدينة «معنى» الافتراضية «مَناڤيرس»، بهدفِ تيسير وصول المعرفة إلى الجيل الصاعد. مدينة «معنى» الافتراضية