في العامين الأخيرين خلال مواجهته المرض العضال، أكب موسى وهبه، المفكر والفيلسوف على جمع أعماله من أبحاث ونصوص، فلسفية وفكرية وأدبية، كان لها حين صدورها في مجلات فكرية وكتب جماعية علاوة على بعض الصحف، وقع شديد وأثر بيّن في المعترك الثقافي والأكاديمي، وعبرها رسم وهبه مسار مشروعه الفلسفي الذي كان استهله أيضاً من وجهة أخرى هي الترجمة لا سيما في إنجازه ترجمة حديثة وكاملة للكتاب الأساس في الفلسفة المعاصرة وهو «نقد العقل المحض» للفيلسوف الكبير إيمانويل كنط . وقبيل رحيله أول من أمس، عن ستة وسبعين سنة، تمكن وهبه من إنجاز هذه المهمة، ولكن من غير أن يقيض له أن يرى أعماله مطبوعة في مجلدات أربعة. تأخر «فيلسوف المدينة» كما كان يحلو لي أن أسميه من دون استئذانه، في جمع أعماله، بل هو كان يؤجل جمعها وفي ظنه أن الوقت لم يحن بعد، فهو كان يطمح إلى كتابة المزيد من الأبحاث والمقالات. كان موسى وهبه فيلسوفاً على طريقته، أكاديمياً ومفكراً عميقاً ورصيناً ومثقفاً يواكب الحياة اليومية، فكرياً وسياسياً وأدبياً وفنياً. وهذه السمة جعلته صديق الجميع من مفكرين ومثقفين وروائيين وشعراء ومسرحيين وأذكر جيداً مقالة له بديعة عن إحدى مسرحيات يعقوب الشدراوي. وكان وهبه واحداً من وجوه المدينة، يجلس في مقاهي الحمراء ويشارك الأصدقاء والرفاق في السجال الدائر أياً كان، يناقش ويقدم أفكاره الطليعية دوماً. كان في قلب الثقافة المدينية، مراقباً ومحللاً، حاضراً، يرافق ما يطرأ من تحولات وما يبرز من قضايا عدة، سياسية وفكرية... وإيماناً منه بالدور الذي يمكن أن تؤديه الصحافة الثقافية في الشأن الفلسفي أنشأ ملحق «نهار الكتب» مع جريدة النهار وترأس تحريره (1996- 1997) وساهم أيضاً في تأسيس مجلة «فلسفة» التي لم يكتب لها أن تدوم لأسباب مادية وكذلك في تأسيس «اللقاء الفلسفي» في لبنان. وكان في الحين عينه ينصرف إلى العمل الدؤوب والشغف المعرفي، قارئاً ومراجعاً ومؤلفاً ومترجماً عيون الكتب الفلسفية، وكان وجهه هذا ينم عن شخص عالم، أكاديمي، رصين وعميق وصعب. وكانت نصوصه الفلسفية الصرف تحتاج إلى قراءة متروية لا تتاح إلا للمتمرسين في الفلسفة والفكر. كانت الترجمة التي مارسها وهبه برصانة وشغف أحد مداخله إلى ممارسة الفعل الفلسفي عطفاً على تدريس الفلسفة أكاديمياً على طريقة المعلمين الكبار بغية خلق جيل جديد يحمل على عاتقه همّ الفلسفة ومستقبلها لبنانياً وعربياً. ترجم «نقد العقل المحض» أحد اصعب كتب كنط وكتب عنه وناقشه، وترجم كتباً مهمة للفلاسفة: هيوم، هوسرل، ليفيناس ونيتشه وسواهم. أما أبحاثه الأكاديمية وبعضها بلغ حجم كتاب فلا تحصى وهي توزعت بين الفلسفة والفكر العربي والفلسفة السياسية (في نقد الحاجة إلى السياسة) عطفاً على مقالات ونصوص ذات نفس أدبي فريد، نصوص في الحب والحياة والترحال والأنا والآخر، والاختلاف والتعدد وسواها. غاب موسى وهبه وبيروت ستفتقده كثيراً وكذلك منابر الفلسفة في لبنان والعالم العربي، لكن أعماله الكاملة المزمع صدورها ستعوض هذا الغياب وتجعل «فيلسوف المدينة» حاضراً بقوة في المشهد الفلسفي والثقافي اللبناني والعربي. الفيلسوف الميتافيزيقي ابتدع بالترجمة مصطلحات جديدة مسيرة معرفية طويلة