منذ بدء البشرية والفعل الثقافي ملازم للإنسان في تعاطيه مع الحياة وتطوره، وفي عصور نلتمس آثارها حتى يومنا هذا، نجد بروز العديد من الممارسات الثقافية في عصر الجاهلية، ثم ازدهار الشعر والقول العربي الفصيح في صدر الإسلام، وفي الأزمنة التي تليه استمر النشاط الثقافي بمختلف أشكاله وتفاعلاته في التنوع والتجدد. وفي سياق ذلك كانت ظاهرة الصالونات الأدبية حاضرة دومًا، ومساحة التقاء الأدباء والشعراء وأصحاب الشأن، يجتمعون فيها لخوض النقاشات الجادة، وتبادل الشعر، وتكوين الصداقات التي تتقاطع في ذات الاهتمامات الأدبية والثقافية. جاء كتاب (الصالونات الأدبية في الوطن العربي) للدكتور أحمد سيد حامد آل برجل، كنافذة مطلّة على الحراك الأدبي والثقافي، مسترسلًا في البداية التاريخية ثم الانتشار والازدهار للصالونات الأدبية، ومفصلًا في غالبية الدول العربية التي احتضنت الصالون الأدبي كمساحة تفاعل ثقافية عُرف من خلاله نشاط شخصيات بارزة كان لها السبق في إنشائها وإقامتها بشكل دوري، ومواظبة حضورها من شخصيات لها بصمتها في عالم الأدب والثقافة. وبإلقاء الضوء على الوسط المحلي نجد العديد من التجارب التي أشار لها د. أحمد في الكتاب السابق ذكره بأن الصالونات الأدبية في السعودية تواجدت في الكثير من المدن، وقد عُرف معظمها بأسماء الأيام التي تُعقد فيها مثل الأحدية والإثنينية، كما كانت الأندية الأدبية التابعة لكل مدينة هي بمثابة صالونها الأدبي، حيث ينظم فعالياته الثقافية، ويجمع روّاد الأدب والثقافة من مختلف الطبقات، مشكلين ثراءً معرفيًا يسهم في تطور المجتمع وتقدمه. أما في الوقت الحالي نرى استمرارية تواجد الصالون الأدبي بالشكل المرتبط ببدايات نشأته، والمتجدد الذي يتناسب مع طبيعة الجو الثقافي العام، منها صالون ميلاد وصالون تشكيل الذي بدأ كل منهما دار نشر سعودية، ثم استُحدث الصالون الأدبي في مقر الدار بصفته نشاط إضافي يستكمل المسيرة الثقافية ويفعّل دورهما في نشر الثقافة والأدب من خلال اللقاءات الأدبية والأمسيات الشعرية والاحتفاء ببعض الإصدارات الحديثة من خلال استضافة مؤلفيها. شهدت السنوات الأخيرة تحولًا رقميًا في مختلف المجالات، بما فيها المجال الثقافي، ففي تقرير لوزارة الثقافة 2020 حول رقمنة الثقافة، أشارت إلى أن «فضاء الإنترنت سهّل من التداول العام في الشأن الثقافي وأتاح فرص التواصل بين الفاعلين والمهتمين، وأصبح هذا الفضاء في كثير من الأحيان هو الحيز الذي يُعرض فيه المنتج الثقافي، وتظهر فيه مبادرات وروابط ثقافية تكمل دورة حياتها على منصاته». وبالنظر إلى الممارسات الفعلية للأنشطة الثقافية الافتراضية، نجد أن الوسط الثقافي قد ساهم في إقامة اللقاءات والأمسيات عبر مساحات تويتر أو بثّ انستقرام أو برنامج زوم، أو أي مساحة عن بعد يمكن أن تُحدث تقاربًا ما بين الجمهور والضيوف المتحدثين. في حين أن الصالون الأدبي الذي يتشكل بتواجد أفراده النُخب، نجد أنه خرج من إطار المساحة المكانية أيضًا، ليصبح نشاطًا رقميًا ممكنًا للمهتمين، ويعد (صالون أدبيات الافتراضي) مثالًا حيًّا لذلك، إذ ساهم في إحياء العديد من اللقاءات الافتراضية بمختلف جوانبها الثقافية.