بعض النقاشات والمراجعات العائلية وما يتخللها من مشادات ولغط، دروس وعبر لمن أجاد اغتنامها وانتهز الفرصة لاقتناصها. يُروى أن الشاعر بشار بن برد كان جالساً مع زوجته يتبادلون أطراف الحديث -وكما هو معلوم فقد كان بشار دميم الخِلقة، عظيم الوجه، جاحظ العينين، أعمى، مجدور الوجه- فقالت له زوجته: "يا أبا معاذ والله لا أعلم على ماذا يهابك الناس رغم قبح وجهك" -كلام ينم عن قلة الأدب أو نتيجة طول الصحبة وسماحة الزوجين؟!- لم يغضب بشار ولم ينفعل ولكنه أجابها بحكمةٍ ورويةٍ وعقلانيةٍ، قال: "ليس من حُسنِه يُهاب الأسد". لكل إنسان مقاييسه الخاصة التي يقيس بها الأمور والأحداث والأشخاص وهي مقاييس مستمدة من خبرة كل إنسان وطبيعة حياته ونشأته، وهي فطرة ومهارة في التعامل مع الأحداث والأشخاص لا يمكن للشخص أن ينفك عنها، فبها يحلل ويدقق ويبني ويستنتج ويحكم ويتعامل مع الأشخاص كل بحسبه. هذه المقاييس ليس بالضرورة أن تكون صحيحة ففي حادثة بشار وزوجته كان جمال الوجه بالنسبة لها مقياساً للهيبة، ولا شك أنها أخطأت، ولكنها الشجاعة والجرأة مع الحكمة. ومن تلك المقاييس الخاطئة ما أخبر الله عز وجل به عن إبليس في قوله: "أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" قال ابن عباس: "أول من قاس إبليس فأخطأ القياس"، فإبليس جعل طبيعة الخلقة مقياساً للخيرية ولكن المقياس الصحيح هو "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وفي مجتمعنا من المقاييس الخاطئة ما لا يعد ولا يحصى. المهم في الموضوع أن تعلم أن منشأ الخطأ في بعض المقاييس، هو قلة الخبرة والتجربة وغريزة العجلة في إصدار الأحكام بالإضافة إلى ضعف الاطلاع وقصور المرء في فهم وتصور مجريات الحياة وسننها وعواقبها، بالتالي إذا لم تكن هذه المقاييس مبنية على أسس صحيحة من علم وخبرة وتجربة وأناة وتجرد من أهواء النفس، أصبحت ذريعة للتنقص والتشفي والتقليل من الأشخاص وازدرائهم كما في قصة بشار وزوجته.