بعض التجارب الإبداعية لها سطوتها الفريدة على قارئها، إلى الحد الذي تستوجب معه أن يسن القارئ قوانينه الخاصة وتدابير الحماية التي تقنن أثر تلك السطوة الجمالية، وتندرج ضمن لعبة القراءة والتلقي، للإفادة القصوى من أثر تلك الهيمنة وظلالها. وأمام عمل بفرادة واختلاف مجموعة "سقف مستعار" للقاص محمد الراشدي، من السعودية؛ يمكن لتلك التدابير أن تبلغ حتى آلية القراءة نفسها، ووقتها؛ فمن المجحف بحق الكاتب والقصة والأوراق والحبر المطبوع وتلك الأرقام المذيلة في الصفحات، أن تقرأ كل قصة في أقل من الزمن الذي يتيح التماهي بمضامينها ولغتها وفضاءاتها السردية المدهشة، ويستوي في ذلك القراءة بمفهومها المباشر، أو القراءة النقدية السابرة، والتي لا أزعم أنني أحاول مقاربتها هنا، لكنني أسجل حاشية عابرة على المتن، وخطوة عرفان تحت سقف وارف الظلال، وانطباعاً لاهثاً لعمل لا يقرأ إلا على مكث وتؤدة تليق به. إذ يتحتم علينا أن نتلذذ بكل قصة نطالعها، ونفرد لها الوقت بطوله وعرضه؛ خاصة إذا كانت تأتلق بالدرر من أولها لآخر سطر فيها، تماماً كبحر العرب المتخم بالمفاجآت، حيث يجدد محمد الراشدي فينا للسرد الحياة كما يجددها بحر العرب في قيعانه، وكما حمل البحارة مع سفنهم الشراعية إلى أقصى شرق أفريقيا فوق سطحه. فإذا ما اتفقنا على هذا القانون فنحن بتلك الهدنة التي نغلف بها أنفسنا، حين نقرأ قصص الراشدي، نصل لسلام كامن في أعماقنا منذ أن التقطت نظارة القراءة تلك التعابير الحانية، المغلفة بمشاعر تصلك دون أن تشعر، وتجدها وقد دست بين ثنايا الحروف والجمل، تطبطب على أرواحنا، ترسل معها صواعق تتقبلها بكل ترحاب، يلتئم معها الجرح وتنقلك من عسر الواقع وضيقه، إلى سعة الغد وآماله، ولولا تلك البروق التي كسرت الأشرعة، والرياح التي تراقصت معها السفن لما كتب التاريخ عن أزهى حكايات البحر والملح وانتظارات الضفاف. سطر محمد الراشدي لمواقفنا اليومية مباهج جعلت من أيامنا أعيادًا نستقبل بوقائعها العائدين من شواطئ الشوق لتتقبلهم الصدور المفتقرة لعناق الكلمة، تتقاذف بوصفها جماليات الضاد، وتعبق بالعاطفة، كما عبق اللبان الغرف واكتنزت به الصدور .أولا تفرد لكل قصة يوم إذاً؟! فمع كل نهاية قصة يجب أن ترجع بظهرك إلى الخلف؛ لتستريح من لهاث السرد والوصف وأنت تزج بنفسك فيما تقرأ وكأنك أنت الراوي المشارك في كل حدث، تعيش مع بطله الأحداث أو لنقل البطل نفسه؛ لتكون بذلك بعضاً من الحكاية وأهم تفاصيلها، وقد قبضت يدي عن مدها لأمسك نهاية شريط القياس في "سقف مستعار"، وأردت تنبيه البطل بإغلاق الصنبور المتدفق في "حظر التجول"! قصص الراشدي لم تخصص لجغرافية معينة كما لم يخلق للشخوص أسماء؛ وكأنه يريدها أكسجيناً مشاعاً يسري بيننا؛ إن لم نتنفسه فهو الوسط الذي نعيشه وإن لم نحلق فيه فهي الرياح التي تحرك الشراع وتأسرنا من كل ناحية وتحت أي ظرف تماماً كما يصوغ الحرف ليحوله دانة لا ينطفئ بريقها، يتجدد مع تكرار قراءتها ألقها ورونقها. وأجمل رسالة يحملها في قصصه؛ هي تلك الأيقونة الجميلة التي تغلف يوميات الإنسانية، مواقفنا العابرة التي لا يأبه إليها الكثيرون. هي الحبال التي تلتف بنا لتصل يومنا بغدنا، نفسها التي تلتف بجسد السفينة فترص ألواحها، وتعلق بطرفها المرساة لتثبتها وترفع بها الأشرعة لتحركها. شكراً محمد الراشدي، لقد باتت سقف مستعار الفنار الذي دلّ القبطان على الشاطئ فتراءت له نصوص (مصباح يجلب العتمة، ووضع الطيران، والدود، وغيرها...) هدايا الأصحاب للعائدين من شواطئ اللغة الجميلة. محمد الراشدي