القصة القصيرة، هذه المعشوقة التي تظل تطاردنا، مهما حاولنا الابتعاد عنها والتملص منها، مهما حاولنا الفكاك، تعود بعنفوانها، تلفح جديلتها في وجوهنا فنخر لسلطتها ونتذكر كم هي سيدة الكتابة. آخر من فعلوا ذلك وذكروني بالمحبوبة المتوارية كان محمد الراشدي في مجموعته سقف مستعار. بدءًا من الإهداء نعرف أن الراشدي يريد أن يعيد للقصة القصيرة بهاءها، ويؤكد أنه يعرفها، يعرف أساطينها، وبهم يستعين، كأنه يقول جئت بعدكم، افسحوا لي مكاناً بينكم، خالداً سأكون، وسيأتي في يوم من يكتب سقفاً مستعاراً مقروناً باسمي في إهدائه. القصة القصيرة حالة خاصة، تنقل لك شعوراً حاداً بهذه الحالة وهذا ما برعت فيه القصص التي يكتبها الراشدي. القصة القصيرة تشبه الشعر، والفكرة التي تريد أن توصلها قد تبدو غامضة أحياناً، وفي الغموض فتنة، يصلك الشعور، والفكرة أيضاً، تلوح لك خلف حجاب فاتن، والفنان يقول لك، لست مقالاً، لست فيلماً وثائقياً، ولست خطيباً، إذا وصلك إحساس التيه والحيرة، القلق والملل، الغربة والريبة، الحرية والانعتاق أكون قد وصلت. وبهذا المعنى يكون الراشدي قد وصل. الأفكار الغريبة التي تلتقطها القصص، السقف المستعار، البطاقة التي تتحول إلى سلاح، علاقة القدم بالحذاء، تدوين الأحلام، مصباح العتمة، الصراع مع الديدان، كل قصة من القصص تحمل فكرة مختلفة، تدعوك للتفكير، والتأمل، لا يمكنك أن تمر بشكل سريع على قصص الراشدي. كتبت تغريدة قبل فترة عن قراءة القصة القصيرة، قلت إنها لا تشبه قراءة الرواية، وأنك تحتاج إلى تركيز عميق وأنت تقرؤها، إذا سرحت وأنت تقرأ كلمة عليك أن تعود لقراءتها والتأكد مما تريد أن تقوله أو تضيفه للحالة التي تهيؤك للإحساس بها عند انتهائك منها. هذا بالضبط ما عليك فعله وأنت تقرأ هذه المجموعة. لا يمكن قراءة المجموعة دفعة واحدة، في جلسة واحدة، لأن كل قصة تأخذ منك تركيزاً عقلياً وعاطفياً تحتاج معه إلى أن تمنح نفسك فرصة لاستعادة النفس وترتيب الأفكار مرة أخرى قبل الخوض في قصة أخرى. هذه نصيحة يمكنك عدم الأخذ بها لكنني وجدتها مفيدة عند قراءة مجموعات قصصية ثرية وعميقة مثل هذه المجموعة. حين أقرأ كتاباً في العادة أضع علامة على الصفحة التي أريد أن أتحدث عنها، أو أقتبس منها، وجدتني في هذه المجموعة وضعت علامات على كل القصص، والآن وأنا أتصفحها من جديد كي أكتب عن الفكرة الأبرز أو الأكثر تأثيراً، لم أستطع، كلها علامات وكلها مؤثرة. والاقتباس الذي سأضعه ليس لأنه الأفضل ولكن لأن الوقت والمساحة داهماني وأنا أكتب عن هذه المجموعة.. "الوقت والأمان في رأيه لا يلتقيان".