من بلغ العقد السادس أو الخامس من العمر لابد أنه يتذكر كيف كانت الحياة الاجتماعية بعامة والأسرية بخاصة، كان البيت يضم الجد والجدة والأب والأبناء في تناغم رائع قوامه الألفة والمحبة حيث كان الكبير يحنو على الصغير الذي بدوره يحترم الكبير ويأخذ برأيه ويطلب مشورته. كانت الأم الكبرى هي سيدة المنزل ومن يدير شؤونه، فلا أحد يخرج عن رأيها، وكانت جلسات السمر على ضوء القمر هادفة تُروى فيها القصص لأخذ العبر، وكانت تشتمل على توجيهات دينية وأخلاقية واجتماعية مباشرة وغير مباشرة تتوارثها الأجيال.. فما حالنا الآن؟ أعلم ان دوام الحال من المحال، ولكل زمان دولة ورجال وعلوم ومفاهيم ربما لم تكن في خانة التخيل، ولكن هناك أمور يجب أن نقف عندها ولا يجوز تجاوزها أو التفريط فيها منها على سبيل المثال للحصر التفاف الأسرة حول ربها، معرفة منزلة الكبير وأهمية توجيه الصغير، الترفع عن الصغائر والزلات، المشاركة الإيجابية في كل ما يجلب السعادة والألفة، صلة الرحم والتواصل قدر المستطاع، المساهمة في تحمل أعباء الحياة كل على قدر استطاعته وفي حدود إمكاناته.. كل ما ذكر وغيره كثير أمور حث عليها ورغّب فيها ديننا الحنيف. ولكن هل المعطيات الحالية تساعد على ذلك؟ الجواب نعم ولا في آن واحد نعم إذا توافرت القناعة والرغبة لدى الجميع بأن ذلك ما يجب أن يكون والترغيب فيه وتذليل ما يتعارض معه. ولا إذا أطلقنا العنان لأنفسنا وسرنا في ركب ما يسمى موجة التحديث وأصبحنا أسرى للتقنية بما تقدمه من تشويق وإثارة وهذا ما نعانيه فعلاً فلا ندفن رؤوسنا في الرمال ونجادل في ذلك، كما لا يمنعنا من الاعتراف بما للتقنية من فوائد عظيمة لا يمكن تجاهلها أو التقليل من أثرها وتأثيرها، وما نحن بصدده في هذه العجالة التأثير على الروابط الأسرية والمنظومة الاجتماعية، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت خير دليل على ذلك. لقد أصبح السواد الأعظم من فئات المجتمع يتحدث مع نفسه أو مع من هو على الطرف الآخر من الخط ناسياً أو متناسياً من بجانبه كبيراً كان أو صغيراً، وقد تُدهش عندما ترى مجموعة من الناس في مجلس واحد وتكتشف أن منهم المشرّق والمغرّب، يجمعهم المكان وتفرقهم الاهتمامات، ولا يطبقون الحد الأدنى من آداب المجلس. لقد أخذتنا التقنية وأحسب أننا مرتهنون لها، فبدلاً من أن تخدمنا أصبحنا نحن من يخدمها. ولعل الخطر الأكبر هو ما يبث بواسطتها وبخاصة الموجه للأطفال ومن في حكمهم من مشاهد تروج للعنف وبعض العادات والممارسات التي لا تتوافق والمقتضيات الشرعية وقيمنا الأخلاقية مما يجعل الطفل ينشأ عليها لتصبح أمراً غير مستغرب، بل قد يسعى إلى محاكاة ما يفعله البطل وكم من المآسي حصلت بسبب تلك المشاهد، كما أن المداومة على ملازمة تلك الأجهزة سبب للعزلة وضيق الأفق وعدم ممارسة الحياة العامة وتحمل المسؤولية وبناء الشخصية، فالحياة العامة هي المدرسة الحقيقة، وهي من يصقل الموهبة لمواجهة المشكلات التي ستعرض للطفل في قابل حياته. فهل نعي ذلك قبل فوات الأوان؟، في الختام أطرح سؤالاً لاأملك له جواباً، كيف نواجه هذا الأمر؟ ومن الجهة المنوط بها ذلك.