الإحساس العاطفي تنفيس عن المشاعر، ولكنه أيضاً نوع من الارتياح وارتخاء الوجدان. والفن أيضاً تنفيس عن المشاعر، ولكنه تنفيس منشط مثير، فالفن هو علم اقتصاد الوجدان إنه الوجدان متخذاً شكلاً جميلاً.. لم يكن الإنسان فينا يبتعد عن المحيط الواقع بين ضفتيه، ولم يكن ليتعامل بل ويتعاطى مع أي رسائل فنية أو إعلامية يستقبلها بلا تعاطف! فالتعاطف هو البوابة الكبرى للولوج إلى الوجدان بل والسيطرة عليه؛ لنندمج ثم نتفاعل بعد هذا التعاطف الذي يتماس مع الإنسان المخزون فينا؛ كل ذلك يعمل على التفاعل الذي يؤدي بدوره لاتخاذ القرار وهنا تكمن خطورة ما يرسل إلينا من مواد فنية وإعلامية قد تحمل في ثنياتها أموراً تستهدف العقل الجمعي في نهاية الأمر!. يقول الفيلسوف الإنجليزي هربت تريد: "إن كلمة التعاطف تعني الإحساس فإننا حين نشعر بالتعاطف مع الإنسان المخزون فينا فإننا نزج بأنفسنا، داخل إطار هذا العمل الفني وستحدد مشاعرنا تبعاً لما سنجده هناك وتبعاً للمكان الذي نحتله، وليس من الضروري أن تكون هذه التجربة مرتبطة بملاحظتنا للأعمال الفنية فمن الطبيعي أننا نستطيع أن نزج إحساسنا فى أي شيء نلاحظه، ولكننا حينما نعمم القضية بهذا الشكل لا يكون هناك سوى تمييز ضئيل بين تسرب الانفعال والتعاطف". من هذه الإحلالية والاندماج الذي يسلكه المتلقي نفسه ما هي إلا ذوبان فى ذوات الأشياء للخروج منها بما يسميه علماء النفس بالمتعة والتي قد تحدث صدى أنفسنا للتجسيد والوصول إلى محسوسات بدلاً من الملموسات. ولذلك كان علماء الإعلام والمتبحرين أدواته سواء كانت فنية أو غيرها يتكئون على العقيدة التي تمثل رسوخاً كبيراً في الذهنية الإنسانية التي لها دور كبير في التفاعل مع الطبيعة الإنسانية ذاتها، والتي تتلامس مع البعد الإنساني من ناحية أخرى، وهو ما ينتج عنه في نهاية الأمر إلى "التسرب الانفعالي" فالانفعال حين التلقي هو جوهر ذلك المارد فينا الذي يقوم بدور التنفيس عنا، إنه ذلك الساحر الذي يجبرنا على اتخاذ القرار في نهاية الأمر! ولقد جعل الفلاسفة المسلمين الحواس الخمس هي أداة الالتقاط لكل الملموسات المحيطة وحملها إلى الوجدان طواعية لتتم عمليات ووظائف دماغية في وعاء يسمى ب(الأميجدلا) في مقدمة الرأس (الناصية) وهي موطن التقلب والإحساس بين السعادة أو الشقاء. فالناصية هي ذلك الكائن المسؤول الأول عن اتخاذ القرار ولقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز لأنها ذات الأهمية القصوى في مسارات الإنسان عبر حياته واتخاذ قراراته! ذلك أن هذا التفاعل بين المحسوسات وكل المعطيات الواردة إلينا عبر تلك الحواس هو ما يحمل الفرد منا على اتخاذ القرار في نهاية الأمر عبر بوابة المتعة في التلقي. يقول الفيلسوف سالف الذكر في هذا الشأن إن "إلادراك بالعضلات والجوارح معناه هو تفسير المرء موضع نفسه حتي يصبح فوق الشيء وفى دخيلة الشيء والإحساس، به فالسعي وراء الإحساس بشتي صوره هو لذة الإنسان وألمه، والفن فى الدرجة الأولى يرتكز على هذه الدرجة العالية من الأحاسيس". يعرف الفن تعريفاً أكثر بساطة وأكثر دعابة بأنه محاولة لخلق أشكال ممتعة ومثل هذه الأشكال تشيع إحساساً من الجمال وإحساسنا بالفن والجمال إنما يُشبِع حينما نكون قادرين على تذوق الوحدة والتناغم بين مجموعة من العلاقات الشكلية من بين الأشياء التي تدركها حواسنا. إن هذا السعي من الإنسان وراء الإدراك بالأبعاد المختلفة ابتداء من الخط الأول ومروراً بالتجسيم والتحجيم في كل الأشكال الصوَرية، ما هو إلا سعي للخلاص من المحسوس إلى الملموس، فالعمل الفني هو بمعني تحرير الشخصيه إذ تكون مشاعرنا بصورة طبيعية مكبوتة مضغوطة. إننا نتأمل عملاً فنياً فنشعر بشيء من التنفيس عن المشاعر ولكننا نشعر أيضاً بنوع من الإعلاء والعظمة والتسامي. وهنا يكمن الاختلاف الأساسي بين الفن والإحساس العاطفي، فالإحساس العاطفي تنفيس عن المشاعر، ولكنه أيضاً نوع من الارتياح وارتخاء الوجدان. والفن أيضاً تنفيس عن المشاعر، ولكنه تنفيس منشط مثير، فالفن هو علم اقتصاد الوجدان إنه الوجدان متخذاً شكلاً جميلاً. هذه هي مدارات الفلاسفة في حقل فلسفة التلقي إعلامياً وفنياً، بحيث إنها لم تكن لتأتي من تلقاء نفسها بين أيدينا لطرح المعلومات أو لمساعدة التلاميذ الدارسين، وإنما لندرك جميعاً خطورة ما يقدم لنا إعلامياً وفنياً، ومدى نفعه من ضرره على الأجيال القادمة في ضوء ما تعج به الساحات الإعلامية والفنية من فنون وآداب ومواد إخبارية وغيرها دون إدراك تلك الصياغة لبواطن ذواتنا وحملنا في آخر الأمر على اتخاذ قرارات قد لا ننتبه لمكنونها ولمدى خطورتها على بنية الشخصية نفسها وعلى الهوية والقومية والوطنية والتفاعل بقدر كبير مع قضايانا بوعي، فالوعي في نهاية الأمر هو المستهدف.