يقول ويلفريد ويثسنغر: "إن العرب قد تذوقوا الحرية، فلم يكن بإمكانهم أن يغيروا أفكارهم وأيضاً سلوكهم بسرعة فلا يسمحون لأي غريب بالاقتراب من طبيعتهم وما تحمله من خصائص يعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من ذواتهم فهم شديدو الغيرة عليها، ولا يحتكرونها لأنفسهم في الوقت ذاته.." إن التاريخ الاجتماعي للمجتمع القبلي يرتبط برباط وثيق ببيئته وظروفه الجغرافية حيث يمكن القول إن كثيراً من أشكال التعبير الاجتماعي قد ولّدتها ظروف البيئة الجغرافية. ولم يؤدِ هذا التعبير إلى اختلاط المناشط الاجتماعية والاقتصادية إنما دفعت المجتمع أو بعض أفراده إلى الانتقال من مكان إلى مكان آخر مما أدى إلى تباين في التنظيم الاجتماعي. ولا تختلف الشخصية القبلية العربية من مكان إلى آخر ومن قبيلة إلى أخرى. ذلك أن مفهوم العرف سائد بين جميع القبائل هو مكونات هذه المفاهيم التي هي أساس بنية الشخصية نفسها. "فإذا كان ابن العشيرة في المناطق العربية ليس من سلالات مختلفة، فإنه من المعقول تماماً أنه لابد أن يكون هناك عناصر مشتركة تظهر في إنتاج هؤلاء الناس جميعاً. فمنذ الوهلة الأولى ترى وضوحاً شاملاً وصلابةً في المعتقد. لم يكن لديهم أمور وسط في رؤياهم فهم أناس يرون بلونين (أبيض أو أسود) فقط. فهم أناس جازمون، يحتقرون الشك، أفكارهم متحررة من القلق والأوهام إلى أقصى الحدود. اعتادوا على المغالاة باختيارهم. وبدا عدم الترابط أحياناً لتكسبهم تأرجح على الفور، إلا أنهم لا يرضون بحلول وسط مطلقاً، فهم يسعون وراء متضاربات منطقية عدة ليصلوا إلى أهداف بسيطة، ودون إدراك أو فهم هذا التضارب أو التعارض. وهم برباطة جأشهم وحكمهم الهادئ". يجتمعون فرادى وجماعات على رأي واحد دون الخروج على كبيرهم سواء قاد شيخ القبيلة أو أب أو قائد. فقد أكسبتهم طبيعة المكان كثيراً من القوة وكثيراً من التلاحم لما تفرضه هذه الطبيعة من الوحشة ومن اتساع الأفق. فالطبيعة الصحرواية قاسية اتخذ منها فردها قساوتها وصلابتها؛ كما أن الطبيعة غير غائمة وغير مُشجرة وغير ذات جبال متقاربة وبالتالي يكون لديه سعة الأفق وأيضاً لا يخلو الأمر من الخوف من المجهول يقول أحد المستشرقين: "إنهم شعوب الفورات، الجيشانات، سلالة العبقرية. وأن حركاتهم مؤثرة أكثر، ومتناقضة مع هدوئهم اليومي، وعظماؤهم أعظم تناقضاً، وقناعتهم هي غريزة، ونشاطاتهم حدسية. وكانت العقائد أعظم إنتاجاً لهم. فهم تقريباً كانوا محتكري الديانات الملهمة. فثلاثة من هذه الديانات ثابتة لديهم.. فقد كانت تلك نجاحات سامية، وإن حواشي وأهداب صحاريهم نثرت معتقداتهم". كما أن هذه الطبيعة الطليقة قد أكسبتهم حباً وشغفاً بالحرية، يمقت المال وأي أشياء أخرى في سبيل الإحساس بالحرية المكتسبة من طبيعة الصحراء. "إن بدوي الصحراء، يولد وينشأ بها بكل كيانه وروحه لتلك الأرض التي يعجز عنها المتطوعون، ولسبب ما يشعر به دوماً إنه يجد نفسه طليقاً بشكل ثابت. وهو يفتقد الروابط المادية، الراحة والرفاهية، وكافة الكماليات والتعقيدات الأخرى لينجز ويحقق حرية شخصيته". فمن الصعب تغيير أفكارهم أو معتقداتهم، أو أي رأي آخر دخيل عليهم، فهذا التلاحم غير المعلن بينهم وبين بيئتهم يجعلهم شديدي التمسك بعقائدهم وأفكارهم فهي جزء من حريتهم. يقول ويلفريد ويثسنغر: "إن العرب قد تذوقوا الحرية، فلم يكن بإمكانهم أن يغيروا أفكارهم وأيضاً سلوكهم بسرعة فلا يسمحون لأي غريب بالاقتراب من طبيعتهم وما تحمله من خصائص يعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من ذواتهم فهم شديدو الغيرة عليها، ولا يحتكرونها لأنفسهم في الوقت ذاته. فإن هؤلاء الرجال قد نظروا للصحراء على أنها أرض جرداء قاحلة، أو تحمل بحرية كل ما تختاره، ولكن الحقيقة، أن كل تلة وكل وادٍ فيها له أو لها رجل يعتبر مختصاً ومطلعاً بها، ويمكنه أن يؤكد بسرعة حق عشيرته وقبيلته فيها، ضد أي اعتداء أو عدوان. وحتى الآبار أو الأشجار يوجد لها أسيادها، الذين يسمحون للناس أن يوقدوا من أشجارها ويشربون من آبارها بحرية، طالما تطلبت حاجتهم لذلك، ولكنهم في الوقت نفسه (هؤلاء الأسياد) يدققون بشكل مستمر في كل واحد يحاول أو يحول ملكيتها لحسابه أو أن يستغلها أو أن يحول إنتاجها لصالحه، أو منفعته الخاصة من بين الآخرين. إذ إن الطبيعة والعناصر المتواجدة فيها هي للاستخدام الحر لكل شخص صديق معروف من أجل استخدامها في أغراضه الخاصة وليس أكثر، والنتائج المنطقية هي في تقلص هذه الرخصة ليقتصر امتيازها على رجال الصحراء، وقسوتهم وصلابتهم بالنسبة للغرباء غير المزودين بالتعريف أو الضمان، حيث الأمن المشترك يكمن في المسؤولية المشتركة". وبالرغم من هذا الألق الشديد في الارتباط بالمكان وحمايته والذود عن ضد أي دخيل غريب، إلا أنهم لا ينبذون الغرباء أو يمقتونهم، وهذا يرجع إلى شيمة الضيافة والإجارة وما إلى ذلك من الشيَّم، فلا يمكن بأي حال من الأحوال وجود للنكوص على العهد، أو التفريط في أي مستجير أو وافد على هؤلاء الرجال. نجد لورنس العرب يقول: "عند مرافقتي، فقد أمكننا أن نثق به. فإن الإخلاص والأمانة في مرافق الطريق هو شيء عزيز ومحبوب جداً بالنسبة لأبناء القبائل والعشائر العربية. فالدليل المرافق قد يخاطر بحياته إذا ما فرّط بالذي يرافقه ويعرض سمعته للخطر أمام أبناء قومه. فلو سولت نفس (الذي ينتمي إليه) الذي كان وعد ليرشد ذلك الرجل (لورانس) إلى المدينة، أن ينكث بوعده ويقتله في الطريق.. ولو كان مسيحياً، فإنه عندئذ سينبذ بمنأى عن أبناء قومه ومن الرأي العام كذلك، بالرغم من أن الدافع الديني إلى جانبه، سيعيش حياة تعسة، منفياً وحيداً بين الجبال، ولن يصادقه أحد، ولن يسمح له بالزواج من أي ابنة في القبيلة". ولم يكن هذا هو رأي لورنس وإنما هي آراء من شد رحل ناقته واتجه إلى الشرق. فها هو ووتسينجر يقول: "كانوا بدوا وأنا أوروبي وكانوا مسلمين وكنت مسيحياً. ولكني كنت زميلهم، تربطني وإياهم رابطة قوية، عراها لا تنفصم. رابطة مقدسة كتلك التي تربط المضيف بالضيف. وإن شئت فقل رابطة العصبية والقبلية، أنا زميلهم على الطريق، فلي عليهم حق الحماية ضد كل خطر، وضد كل إنسان حتى ولو كان أخاً لهم، وكنت أعلم أن أقسى امتحان لي هو أن أنسجم معهم في حياتهم، فلا ممارسة سيطرة، ولا انتقاد لما شبوا عليه من مثل وطرق المعيشة، وأخيراً، ولا انطواء على النفس يباعد بيني وبينهم". وهم رجال أشداء ولكنهم ينقسمون إلى صنفين، الأول منهم هو واثق طائع لقياداته، ولكنها قيادات شديدة المراس، يعتبرون أنفسهم حراس العادات والتقاليد والأعراف ولكل منهم حلمه في الحياة، ليست حياته الخاصة وإنما حياة الكل، فلا وجدود لمفهوم الفردية بينهم. فمن طلب أمانهم أمنوه ومن عدا أو اعتدى عليهم فهم جد خطرون.