الفرق الدقيق يكمن في عمق التفريق بين العصبة والعصبية، فالعصبة هي ترابط الجماعة على الخير والشر وعلى الحب والوئام أو على من انتهك قوانينهم ودساتيرهم، أما العصبية فهي نبذ الآخر الذي لا ينتمي إليهم وذلك غير وارد فيما استقرأناه.. تطور لغوي يحدث بين مصطلحين منحوتين بذات الأحرف في تشكيل صوري شبة متطابق، إلا أن الفرق شاسع بين المفهومين، يأخذ الأخير من سابقه حروفه ثم يتجه إلى منحى خطير، نتعاطاه في نسق فرض علينا عبر دلالات اللغة دون تدقيق! وللمستشرقين نصيب أكبر في رواج النسق بين المنحوت والمفهوم، إما لعدم تمرسهم في دقائق اللغة، أو لغرض في أنفسهم ولا نحكم على النوايا! ومما لا شك فيه أنها كانت تقوم بين العرب مشاحنات تصل إلى الحروب بينهم - صنفت بالعصبية القبيلة - إلا أنها تأتي في سياق الذود إما عن المراعي ومنابع الماء أو الحمى. وقد فسر الباحثون هذا الذود على أنه نوع من العصبية، فانتشر هذا المفهوم. فخاصية الذود عن المكان ديدنهم، لأن خاصية الانتماء متجذرة فيهم، الانتماء للنسب ثم الانتماء للمكان الذي قد يحوي بعض المستجيرين والوافدين فأصبحوا بمرور الوقت من لحمة المكان والقبيلة عن طريق المصاهرة والسرارة وما إلى ذلك، «فالتفرعات القبلية ليست تقسيمات عائلية جينولوجية، وإنما هي تقسيمات تحدد العلاقات السياسية والقانونية والتعاونية بين مختلف مكونات القبيلة، والعلاقات القبلية المفترضة ما كانت إلا غطاء أيديولوجيا يبرر ويعزز هذا الشكل التنظيمي الذي يندمج من ناحية الوظيفة إلى هيكل التشكيلات والكتائب العسكرية. فالحميَّة للأرض التي يعتبرها الفرد شرفه وعرضه، والذود عن الحِمَى أصبح نوعاً من الشرف. وعليه لم يكن تعصباً، فالتعصب هو التحوصل داخل خلية تنبذ الغرباء أو التعصب لدين، وهذا غير وارد كما ذكر أحوال هؤلاء الرحالة، بالرغم من أنهم يعتنقون ديناً مغايراً لدينهم. ولذلك فهناك فرق دقيق بين قوة الانتماء للمكان الذي ذابت فيه الشخصية، وبين نبذ كل غير ذي صلة بأفكارهم ومعتقداتهم وجنسهم. فهم لم يكونوا عدوانيين أو متعصبين ضد أي غريب كما أنهم قوم يركنون إلى المؤانسة والجماعة، ومن هنا ندرك الفرق بين الدفاع، والكراهية ونبذ الآخر الذي لا يحمل سماتهم الفكرية والعقائدية، وهذا الفرق الدقيق يكمن في عمق التفريق بين العصبة والعصبية، فالعصبة هي ترابط الجماعة على الخير والشر وعلى الحب والوئام أو على من انتهك قوانينهم ودساتيرهم، أما العصبية فهي نبذ الآخر الذي لا ينتمي إليهم وذلك غير وارد فيما استقرأناه. وقد وردت كلمة عصبة في القرآن الكريم في سورة يوسف (قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون) (الآية 14 من سورة يوسف) وقد تكون العصبية فردية، كل يتعصب لرأيه ولأفكاره في أي مكان في العالم، بينما نجد أنه لا مكان للفردية بينهم. يقول ووتسينجر في كتابه فوق الرمال العربية والذي دوَّنه في مطلع القرن التاسع عشر: «إنني دائم الحنين إلى الوحدة وذلك هو الشيء الوحيد الذي لا يشعر به البدوي طيلة حياته، فقد سألني الإنجليز كثيراً هل شعرت بالوحدة في الصحراء...؟؟ إنني لم أشعر يوماً بالوحدة وأنا بين الأعراب، لقد زرت مدناً عربية لا يعرفني فيها أحد، ودخلت أسواق العرب، وكنت إذا حييت بائعاً دعاني إلى الجلوس معه وأرسل في طلب الشاي وانضم إلينا أناس كثيرون، يسألونني عن حال مقصدي ولا يكتفون بذلك بل توجه إليَّ الدعوات من مختلف الأفراد للغداء والعشاء!! ترى كيف يشعر مثل هذا العربي لو أنه زار إنجلترا لأول مَرَّة؟ إني لأرثي له! فسيجد فارقاً بين عادات وعادات!» وحينما يقول ابن خلدون: «لا يصدق دفاعهم وذيادهم إلا إذا كانوا عصبة وأهل نسب واضح، لأنه بذلك تشتد شوكتهم ويُخشى جانبهم.. وتعظم رهبة العدو» فبطبيعة الحال وكما نرصده إلى أي مدى تبلغ سلطة المكان، نجد أن ذلك ما فرضه عليها، إذ أن وحشة الصحراء وشدة اتساعها، ووعورة أراضيها تترك في النفس شيئاً من الترقب والحذر، وهذا شيء بديهي! ولذا تتكون المجموعات، ليس أبناء عنصرية أو عصبية، وإنما للذود عن حياضهم، وعن شرفهم ضد أي اعتداء، ولذلك نجد ابن خلدون يرد ذلك إلى ضد الأعداء وتخويفهم للعدو، فقال (تعظم من رهبة العدو)، فالمسألة هنا تتعلق بالدفاع وليست بالتقسيم النفسي بين مجموعات الأفراد والجماعات والدفاع عن الأنساب والأصهار، فالعرب هم من يشتهرون بقِرى الضيف الغريب الذي لا يعرفونه، ويأنسون بالأغراب والأجانب كما ذكر وتيتسنجر. في دراسة لي عن أنساب العرب - بحثا عن كنه الشخصية وليس للتنسيب وما إلى ذلك - أخذني المسار البحثي إلى تتبع أنساب سيدات العرب، وهالني ما وجدته من تلك الشبكة العريضة التي فعلها النسب والمصاهرة، ورابطة الدم بين الأبناء والأجداد، بين قبائل وقبائل، حتى انتهيت إلى تلك الذوبانات بينهم !. وبطبيعة الحال نجد أن من عاداتهم تلك التحالفات التي تنشأ عن طريق النسب، حتى أن هناك روابط أخرى تجمع بين القبائل عن ما يسمى بالسرارة وبالسّميَّ، السرارة هي إهداء (سرة المولود) الجافة إلى عائلة من قبيلة أخرى اعتزازا بها؛ وكذلك السموه وهي إطلاق اسم الوليد باسم عزيز يعتز به من عائلة أو قبيلة أخرى، وبناء على ذلك تنشأ روابط تصل إلى التحالف في الدم والدِّية وما إلى ذلك؛ ويرجع ذلك إلى سلطة المكان وقسوته وبحثا عن الإنس والود والأمان! فمن أين جاء لنا هذا المصطلح متخذاً سياقاً عدائياً للآخر؛ فاقتحم طبيعتنا اقتحاماً، ووصمت به المجتمعات القبائلية في أرجاء الوطن العربي كله ونحن منه أبرياء! Your browser does not support the video tag.