القارئ لسير وتراجم المستشرقين الذين وصلوا إلى مكةالمكرمة، يلحظ أن نسبة منهم كانوا جواسيس انصب هدفهم في التعرف على الحياة الاجتماعية والاقتصادية بمكةالمكرمة، المدينة التي يقصدها المسلمون لأداء فريضة الحج. واستخدم المستشرقون كافة الوسائل والسبل للوصول إلى مبتغاهم، فكانت خطوتهم الأولى التظاهر باعتناق الإسلام، وإتقان اللغة العربية، وارتداء الثياب العربية، فظهروا بمظهر العرب المسلمين القاصدين بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج. والقارئ لسيرة دومينغو فرانثيسكو باديا، الذي عرف باسم علي باي العباسي يلحظ ذلك، فهو رحالة وجاسوس إسباني، وصل إلى مكةالمكرمة، خلال الفترة من 1803-1807، متقمصاً مظهر الرجل التقي المسلم، ويعتبر أول إسباني يدخل مكةالمكرمة، تعرف على عادات الشعوب في مصر والمغرب وسورية ولبنان وفلسطين، وأصدر أول كتاب له عام 1814 بعنوان «رحلات علي باي العباسي في إفريقيا وآسيا خلال الأعوام 1803-1807 « باللغة الفرنسية في ثلاثة أجزاء، وأهداه إلى لويس الثامن عشر ملك فرنسا، وضم الكتاب مجموعة كبيرة من الخرائط والرسوم التي نفذها الرحالة بنفسه، وفي عام 1816 ظهرت الترجمة الإنجليزية للكتاب في جزأين تحت اسم «رحلات علي باي في المغرب وطرابلس وقبرص ومصر والجزيرة العربية وسورية وتركيا بين الأعوام 1803 - 1807 كما ترجم الكتاب إلى الألمانية ثم إلى الإيطالية في عام 1816، وظهر الكتاب باللغة الإسبانية عام 1836 باسم المؤلف الحقيقي دومينغو فرانثيسكو باديا، وليس باسم علي باي العباسي كما ظهر في الترجمات السابقة. ولم يكن جوهان وايلد الذي أدى فريضة الحج، بعيداً عن دومينغو، فكلاهما لم يعتنقا الإسلام، وإن كان دوميغو جاسوساً، فإن جوهان الأسير الألماني والذي وقع في أسر الجيش التركي أثناء أدائه للخدمة العسكرية بالجيش الإمبراطوري في المجر، واقتيد إلى القسطنطينية عام 1604، وبيع في سوق الرق ثم بيع إلى تاجر آخر اقتاده إلى مصر، ليباع مجدداً لتاجر فارسي أخذه معه في رحلة الحج إلى مكةالمكرمة عام 1607م، وأطلق عليه المستشرق الأسير، وجد في رحلته للحج فرصة يدون فيها العديد من المشاهدات عن مكةالمكرمة والحياة الاجتماعية والاقتصادية بها، ويحمل معلومات عن هذه المدينة المقدسة لدى المسلمين، وعن رحلة الحج التي كان الغرب يبحث عن معرفة تفاصيلها وأسرارها، واستطاع أن ينقل للغرب ما كانوا يحتاجون إليه من معلومات، كما نقل ما يعانيه الحجاج في رحلتهم من مشاق، وبرز ذلك في قوله: «إن الحجاج الذين رافقهم عانوا في الطريق معاناة كبيرة، ومات منهم عدد عظيم، ونفق من الجمال أعداد لا تحصى»، في إشارة منه لما تعرضوا له بعد ثلاثة أيام من مغادرة القافلة لينبع، حيث هوجمت قافلتهم وقتل منها نحو ثلاثمائة حاج وخمسمائة جمل، مما اضطر قائد القافلة لتغيير طريقها بين الجبال الوعرة، حتى وصلت إلى مكةالمكرمة، كما تناول معاناة الحجاج بعدم توفر المياه الصالحة للشرب. ويقال إن وايلد أبدع في وصف الحجاج وهم يطوفون حول الكعبة المشرفة، ويقبلون الحجر الأسود ويصلون خلف المقام، ويشربون ماء زمزم، كما أبدع في وصف رائحة العطور بالقرب من المسجد الحرام وجاءت عبارته «يا لروعة هذه الروائح الزكية التي شممتها في هذا المكان فتبعث في النفس انتعاشاً وبهجة»، تأكيداً لها. وتناول وصف تحركات الحجاج إلى المشاعر المقدسة، وصعودهم إلى جبل الرحمة بعرفات يوم التاسع من ذي الحجة، ثم نفرتهم لحظة الغروب إلى مزدلفة ومنها إلى منى، ورمي الجمار، وذبح الهدي والأضاحي، وطواف الإفاضة. كما تناول وصف مكةالمكرمة ولحظة وصوله لها، تناول رحلته إلى المدينةالمنورة، حيث قال: «إنه بعد أدائهم أي الحجاج لمناسك الحج، توجهوا بصحبة القافلة إلى المدينةالمنورة، إذ لا يمكن لشخصين أن يسيرا وحدهما لصعوبة الطريق وغياب الأمن والأمان به»، وهذا ما يؤكد غياب الأمن بطرق الحجيج خلال الحقبة الزمنية الماضية. وكتب وايلد وصفاً دقيقاً للحظة وصوله للمدينة المنورة، ودخوله للمسجد النبوي قائلاً: «وصلنا المدينةالمنورة ووقفنا أمام غرفة مغلقة تزدان بشبكة من الحديد والنحاس المشغول، يقصد الحجرة النبوية لم يكن مسموحاً لأحد بالدخول وظل الحجاج يرددون الأدعية»، كما وصف القناديل التي تزين المسجد. وحرص وايلد على تضمين يومياته بعض المعلومات عن التعاملات التجارية، والحياة الاجتماعية للسكان، وعادات الزواج والختان، كما تطرق للملابس التي كان يرتديها السكان. وجاءت تفاصيل رحلة يوهان وايلد في مذكراته التي كتبها بعنوان «تقرير رحلة لأسير مسيحي»، التي بدأت من نورمبرج عام 1604، وانتهت في نورمبرج عام 1611م، وطبعت عام 1613م، ثم أعيدت طباعتها عام 1623م. ومن هنا يتضح أن المستشرقين الذين وصلوا إلى مكةالمكرمة، استطاعوا نقل الكثير من المعلومات عن مكةالمكرمة وساكنيها وقاصديها عبر مؤلفاتهم، وتناولوا رحلة الحج بالتفصيل. أحمد صالح حلبي