يذكر الباحثون اللغويون من المعاصرين أن أجمل ما يُعرِّفك عقلَ أمة من الأمم هو دراسة تراثهم، لتقف على طريق تفكيرهم، وكيفية معالجة أمور حياتهم الطارئة، ويُعد الأدب في كل أمة بابَ الولوج إلى نقطة المركز التي ينطلق منها الغائص إلى عمق فكر الأمة؛ لاشتماله على أنحاء مهمة في المجتمع، ففيه الدعامتان اللتان تمثلان النتاج الفكري الحقيقي للأمة هما: النظم والنثر (الشعر والنثر) وللنثر الذي يتعدد غرضه من خُطَب وأمثال وحِكَم، كلها نوافذ تبث لك الحياة الفكرية الرائعة عند الشعوب المختلفة القاطنة في هذا البساط الواسع، ومن أعظم الأبواب نفعًا، وأمتعها للقلب، وأشدها استحقاقًا لمن طلب إثراء العقل، هو تسلق سُلَّم "الأمثال والحِكَم". وقد حظِيَ الأدب العربي بهذا النوع من الفن الجميل منذ فجره الأول فاحتفظ بآثار الأقدمين الضاربين في القِدَم، وتوارثته الأجيال جيلا عن جيل، واشتد أوج هذا الفن في الأزمنة المتلاحقة -ولا سيما- عصر النبوة الشريفة، حين امتن الله -عز و جل- على العرب بالإسلام، جاء نبي العلم والحكمة -صلى الله عليه وسلم- وأضاف إلى هذا الكنز الثمين ما يندر وجوده في الأكياس من الناس، ولا تستطيعه الحَذَقة المَهَرة، فتفرد بهذه الفضائل الجمة صاحبُ الرسالة الخاتمة -صلى الله عليه وسلم- وسارت بين الركبان سريان الريح، ثم نهل مَن بعده على مسار مسلكه، واقتفوا أثره الطيب، فتأملوا في عناقيد كلامه، واستفتحوا به الكلام. انتهض العلماء بعد قرون لمساجلة هذا التراث بعد نقلهم إياه على مدار الحِقب الدابرة من حفظه في الصدور إلى حفظه في الطروس مع الصدور، وقد ألّف كثير من العلماء في الأمثال والحكم، وفي كل فن من الفنون رجل قد بزَّ أقرانه بجياد معارفه، وجيد نظمه، وقد انتخب العلماء مصنفا قيِّما لجودته في هذا الفن، وسعة حصيلة مصنفه، فهو أحسن ما أُلف في هذا الباب على الإطلاق، والكتاب هو (مَجْمَعُ الأمثال) للميداني، وقد وقع خلاف في التسمية، والتسمية التي يحملها الكتاب المطبوع (مجمع الأمثال) واسم الميدانيِّ، هو: أحمد بن محمد بن إبراهيم، وكنيته: أبو الفضل والميدانُ: محلة من محال نيسابور كان يقطنها فنُسب إليها. من مزايا هذا الكتاب أن مؤلفه رتَّله ترتيلَ الحروف الهجائية؛ ليسهل على مطلع هذا الكتاب الوصول إلى أرَبه، وقد بدأه بالأمثال النبوية المشهورة الصحيحة، وفي بدئه هذا لطيفة، وهي: أنه عملٌ بقول الله -تعالى- (يأيها الذين ءامنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله / الحجرات) فنحن مأمورون بأن لا يكون شيء من حياتنا اليومية نرجو منه الخير والدار الآخرة فنقدم حكمَ أحد على حكم الله ورسوله، أو نقدم كلام أحد على كلامهما، بل الواجب علينا الانصياع والانصهار بما قال الله وقال رسوله، وأن نوثر كلامهما؛ لهذا كان واجبًا على المتكلم، أو الكاتب أن يقدم ذكر الله والصلاة على رسوله على ما يعقبهما من كلام. وممَّا ورد في هذا الكتاب من الأمثال النبوية الشريفة قوله -صلى الله عليه و سلم- 1 – (إنَّ مِنَ البَيَان لَسِحرًا) يُضرب في استحسان المنطق، وإيراد الحجة البالغة. قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- حين وفد إليه عمرو بن الأهتم والزِّبرقان بن بدر، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عمرو بن الأهتم عن الزبرقان فقال عمرو: مُطاع في أَدْنَيه (1) شديد العارضة، مانعٌ لما وراء ظهره، فقال الزبرقان: يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر من هذا، ولكنه حَسَدني، فقال عمرو: أما والله إنه لزَمِرُ(2) المروءة، ضيق العَطَن (3)، أحمق الوالد، لئيم الخال، والله -يا رسول الله- ما كذبتُ في الأولى، ولقد صدقتُ في الأخرى، ولكني رجل رضيت فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلت أقبح ما وجدت فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (إن من البيان لسحرا). ومن ذلك قوله: 2 – إنَ المُنبَتَّ لا أرضًا قَطَع، ولا ظَهرًا أَبْقى. والمنبت في هذا الحديث هو: المنقطع عن أصحابه في السفر، ومعنى الظهر: الدابة يُضرب لمَن يبالغ في طلب الشيء، ويُفرط إلى درجة قد يُفوِّته على نفسه. وقد قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- لرجل عابد، اجتهد في العبادة حتى هَجَمَت عيناه، أي: غارتا، فلما رآه قال له: إن هذا الدِّين متينٌ فأَوغِل فيه برِفقٍ، إن المنبت، أي: الذي يجِدُّ في سيره حتى ينبتَّ أخيرا، وهذا من إطلاق ما ستؤول إليه عاقبته؛ لأن من جدَّ وشمَّر واجتهد في بدايته لا بد أن يعقبه فتور وخمول بعد ذلك فيضعف وتخور قواه. ومن ذلك قوله: 3 – إنَّ ممَّا يُنبتُ الربيعُ ما يَقتلُ حَبَطًا أو يُلِمَّ. الحبَط: انتفاخ البطن، ويكون عندما تأكل الإبل فتنتفخ بطونها إذا أكثرت من الأكل. يُلِمُّ: أصله من الإلمام الذي هو النزول، وكذا القرب، ومعناه هنا: القتل، أو يقرب من القتل. قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- في صفة الدنيا والحث على قلة الأخذ منها.