لا يمكن أن نكتفي بالاحتفاء بالعمارة والفنون في الحضارة الإسلامية في يوم واحد في السنة فقط، فهذا الموروث يحتوي على كنز ضخم من الأفكار التي يمكن أن تغير منظومة التصنيع والفنون البصرية المعاصرة، لكن الأمر يتطلب أن نبدأ بتأسيس مراكز متخصصة لدراسة هذا الكنز وتقديمه للعالم بصورة مختلفة.. . احتفى العالم يوم الخميس الفائت 18 نوفمبر باليوم العالمي للفن الإسلامي، وأنا على يقين أن قليلاً من الناس يعلم بهذا اليوم لأنه لا يشاهد مظاهر هذا الاحتفاء ولا يشاهد نتائجه، على أن هيئة الثقافة في مملكة البحرين نظمت ندوة بهذا المناسبة شاركتُ فيها بترشيح من وزارة الثقافة. في البداية لابد أن أقول إن الندوة بينت "الأزمة" التي تعاني منها الفنون في الحضارة الإسلامية، التي ظهرت بشكل باهت على مستوى التوثيق وعلى مستوى التحليل، ويبدو لي أن هذه الأزمة تمتد إلى غياب عميق للبحث العملي التفكيكي لهذا الإرث، فأغلب المداخلات كانت إما سرداً تاريخياً أو عرضاً لملقيات أثرية تخلو من العمق الذي يبين أسباب تطور هذه الفنون ومن ساهم في تطويرها. ويبدو أن هذه الإشكالية تمتد كذلك للعمارة ولكثير من الإرث المادي بشكل عام الذي لم يجد رعاية فكرية وتوثيقية خلال قرون فخسر بعده الزمني التطوري. من غير المستغرب إذاً، أن نرى كثيراً من الباحثين الغربيين يقدمون أنفسهم كعارفين بهذا الفن وخبراء فيه، وإن كانت معرفتهم غير مكتملة وغير ناضجة بما يكفي. يوم الثلاثاء القادم، سيتم افتتاح مؤتمر "المسجد: إبداع القطع والشكل والوظيفة"، بتنظيم من مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) وجائزة عبداللطيف الفوزان لعمارة المساجد في مركز إثراء في الظهران، وسيستعرض نخبة من المتخصصين على مدى يومين الفنون الإسلامية التي ارتبطت بعمارة المسجد. دعوني أقول لأنه عندما فكرنا فيمن ندعوه لتقديم أوراق علمية في هذا المجال اكتشفنا أن عدد المتخصصين الذي لهم أعمال مؤثرة قليل جداً، وعندما نتحدث عن المنطقة العربية يزداد الأمر صعوبة. المؤتمر يعتبر الأول في تخصصه، فلم يسبق أن عقد مؤتمر عن الفنون البصرية المرتبطة بالمسجد، وهذا في حد ذاته يثير علامة استفهام كبيرة، فهل عجزنا عن دراسة تراثنا المعماري والفني؟ من جهة أخرى نجد أن الذي تخصصوا في الفنون الإسلامية من الغرب تعاملوا معه بأسلوب نقدي، وأذكر هنا أن "أولغ غربار" (توفى عام 2010م) ذكر أن العمارة في الحضارة الإسلامية شكلية ولم تتطور كثيراً وأن الزخرفة الخارجية التي تكتسي بها الكثير من المباني ماهي إلا ثوب خارجي يمكن تغييره دون أن يتأثر المبنى. هذه العبارة التي لم يرد عليها أحد حتى الآن بشكل علمي توثيقي وتحليلي وهو ما يعكس العجز الذي نحن عليه، فمن غير المعقول أن يتولى غيرنا دراسة تاريخنا ونقف متفرجين، والإشكالية أنه لا يوجد مركز متخصص في دراسة هذه الفنون في الجامعات العربية كما نراه في الجامعات الغربية وإن وجدت فهي مجرد أسماء دون منتج. يجب أن أقول إن المؤتمر الذي سيعقد في إثراء هذا الأسبوع لم يلفت انتباه الجامعات السعودية بشكل واضح، وهذا يثير استغراباً آخر، فالمسألة هنا ليست في غياب الفرصة بل في غياب الاهتمام. في ندوة البحرين قدمت ثلاث محاولات لطلاب وطالبات دكتوراه في قسم العمارة بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل لدراسة العمارة والفنون البصرية في الحضارة الإسلامية، إحدى تلك المحاولات تركز على دراسة التيارات الفكرية التي حكمت العقل التحليلي والمتمثلة في مدرستي الرأي والنقل، وهي محاولة تفترض أن النقل والارتباط بالنص ارتبط بالسلطة وهيمن على الحواضر الكبرى بينما كانت هناك مساحات أكبر للرأي في مدن الأطراف، وبالتالي فإن ما يسمى بشواهد العمارة الإسلامية كانت نتيجة ممارسة سلطوية تنسب للحاكم، وليست للمعماري والفنان اللذين غابا عن مشهد التدوين في كتب التراث بشكل كامل. في اعتقادي هذه المحاولة الجادة تمثل نقطة تحول في إعادة التفكير فيما أنتجته الحضارة الإسلامية من عمارة وفنون بصرية. المحاولة الثانية ركزت على دراسة تطور الفنون الزخرفية وفككت هذه الفنون وبنت نموذجاً تطورياً مكوناً من ست خطوات يبدأ من النواة المولدة للزخرفة إلى المجال الزخرفي، وكذلك المحاولة الثالثة قريبة من الموضوع لكنها طورت هيكلاً يبين كيف تتحول الأشكال من الوظيفية إلى الرمزية. في اعتقادي أننا بحاجة إلى مثل هذه المحاولات الجادة لإعادة فهم تراثنا شبه الغائب عن ساحة التأثير في الحضارة الإنسانية المعاصرة، فلا يمكن تفعيل هذا الإرث دون فهم مسببات وجوده. ولا يمكن أن نكتفي بالاحتفاء بالعمارة والفنون في الحضارة الإسلامية في يوم واحد في السنة فقط، فهذا الموروث يحتوي على كنز ضخم من الأفكار التي يمكن أن تغير منظومة التصنيع والفنون البصرية المعاصرة، لكن الأمر يتطلب أن نبدأ بتأسيس مراكز متخصصة لدراسة هذا الكنز وتقديمه للعالم بصورة مختلفة.