نحن اليوم ما بين اتصال وتواصل.. ونشاط ذهني مرهق من كثرة ما يتلقى ويتلقف أفكار عجيبة، ورؤى غريبة، وأطروحات مريبة.. كل ذلك يدور في فلك التسارع وفضاءات التغير. عقول سريعة أصبحت وأمست تتقبل غرائب المتغيرات، وعجائب المستجدات بلا وعي وإدراك، كل شيء حولنا ينصهر في حرارة التجدد، وسخونة التمدد بلا رحمة، وكثير من الناس يصيبهم الانبهار والحيرة. تتعجب كيف يستجيب الفرد هكذا على عجل، لا تفكير ولا وجل، تذكرت من سنوات خلت بعض الخواطر، وحالات من التوهم كنا نقصيها من عقولنا لمجرد التفكير بها، واليوم حتى السمك صار حلمه في اليابسة. كل مستجد حقيقة يسيطر على منافذ التأثير، ومسارات التغيير.. وكل وسيلة مستجدة تسهم في إرباك العقول والإخلال بالوعي، والعبث بالتفكير وما بين مسلّمات وثوابت وبدهيات، وقيم تحدث حالة الضياع بين المجتمع. وحتى المبادئ تحورت، وتحولت لاتجاهات جديدة قلبت معانيها السامية إلى أطروحات قابلة للتفكيك والرد والتعديل، أو حتى الإهمال.. فكان حكم الفرد ليس من خلال القيمة، ورمزية المعنى وسموه ومصداقيته بل صار الحكم من خلال «الأنا» والرغبة، وخدعة الرأي الآخر.. وعبر سلوك المؤثر من الأشخاص لذا حدث «موت القيم» وحياة الجدل والاختلاف فالخلاف. فسلوك المشهور المعوج، وشياع الفعل الخاطئ، وانتشار المعززات السلبية، وغياب الحضور الذهني، واعتياد المتلقي لكل ما يجري بلا إحساس، وتمكن الغفلة في كثير من القلوب والعقول.. مكّن للمرء أن يفهم الحياة بطريقة مختلفة، والحدث بشكل ثان، والتصرف بأسلوب ذاتي، والفعل برأي مبرر. فيجد أن القيم حسب المعنى المقيد بقيمتها، هو معنى يعطل الحياة، ويغلق الانفتاح، وأضحى الفرد يقدم رغبته، إرادته، خياراته على كل شيء.. فصار له في العيب رأي ثان، وفيما لا يجوز قول آخر، واقترف الخطأ فلم يصفه بذلك فبحث عن مبرر، وأصاب من السوء ولم يصفه بذلك ففتش له عن مسوغ.. هنا «موت القيم» يحدث. كما أن أي طيف مجتمعي يتبنى ويقبل فكرة شاذة، أو منظور غير مقبول، أو سلوك مزعج بسبب كثرة حدوثه، وانتشاره، وتكراره.. وكان الأمر مشوبا بالخطأ، وموت القيمة فيه فذلك بالمنطق والرشد لا يغيّر من الحقيقة، ولا يقلب الحق إلى باطل.. ولا يجعل الخطأ صحيحا، والكذب صدقا، والحرام حلالا فالقيم والمبادئ الفاضلة سموها من تناغمها مع الفطرة السليمة، وتماهيها مع الدين القويم. إن حالة الانفصام التي نعيشها مع قيمنا الفاضلة تصيبنا بالعجز، وتعمينا عن جادة الصواب فمغذيات القيم والمبادئ الكريمة تضمحل، وتتلاشى تدريجيا بسبب عجزنا عن منع ذواتنا من التأثر، والابتعاد عن استيراد قيم خارجة عن واقعنا الاجتماعي وخصوصيته، وخصائصه. ويبقى القول: الفرد.. الأسرة.. المجتمع اليوم قد يكونون في مأزق كبير لأنهم يتصادمون مع المستجدات فتصدمهم وتهزمهم.. ثم تدفع بهم إلى التخلي عن بعض القيم، وتتجه بالكثير نحو تعرجات حياتية توجب علينا مراجعة كثير من الفهم الذاتي نحو المتغيرات، والحذر من التعاطي معها بطريقة لينة.