فوق طاولة النجار؛ استرخى منشار مضرّج بالتعب، والفراغات بين أنيابه محشوة بفتات الألواح وشظاياها، وكعادته في كل استراحة؛ كان يصغي بتلذذ لأنين الأخشاب المبتورة للتو، والغفوة تخالسه، بينما الفضاء حوله معبأ بذرات النشارة الهائمة في كل جهة، وهي تتراءى سابحة بين الضوء والظلمة مثل النجوم في الأفلاك البعيدة.. وفوق جبين المنشار حطت ذرة شاحبة من تلك النشارة، قادها التيه إلى ذلك السطح الصقيل الذي أدهشتها برودته رغم مشهد أنيابه المتأهبة.. لم يأبه المنشار لذرّة الخشب التي توسدت متنه، لكن أدهشه منطقها حين راحت فجأة تمعن النظر إليه وتخافته: * لست أدري إن كنت مدينة لك أو حانقة عليك، وفي الحالين لا فرق؛ فابتسامات الخشب لن تروض في المنشار سطوة البطش، وكل أحقاد الجذوع لم تثلم في نهم أنيابك غريزة الفتك.. لكنني وكل جموع النشارة هذه لا نعلم حقًا هل ندين لك أم نبغضك؟! لم يجد المنشار غضاضة أن يحاور ذرة النشارة على سبيل الترويح والتسلية -رغم دهشته- فقال وفي نبرته الاستعلاء: أَتَفَهمُ حقد الألواح، وبغضاء الشجر، لكن بأي شيء تَدين النشارة للمنشار؛ وهو الذي سفك طمأنينتها وأراق نضارة أغصانها؟! طافت ذرة النشارة ببصرها المكان، وهي تشير إلى بقية النشارة العالقة في الهواء وتقول: كلما توغل منشار في لوح ظنت فلول النشارة أنها تنعتق من زنازين الخشب، وبلادة الألواح، وأصفاد الجذوع؛ تَحْسَبُ أن المنشار إنما يقضم جهامة الأمس ليهب الفرح قلوبًا تخشب فيها النبض؛ فتبتهج لحظة أن تجرب لأول مرة شيئا يشبه الحرية، ولو كانت حرية الهباءة من الرمل في مشيئة الريح، حتى إذا أرهقتها الفضاءات وصلف العواصف؛ حنّت النشارة للجذع القديم، والطمأنينة التي لا تستعاد، فتتشظى روحها بين وقار الألواح ونزق النشارة.. بين التخشب والركض، محبورة بالوقت الذي منح الخشب أجنحة من وهم أشهى من اليقين، موجوعة بذكرى دوحة قديمة، وظل وارف، وغصن تنضج فوقه الثمار ولحون العصافير، قبل أن تتراكم تلالًا من رماد عمر احترق في فضاء الظنون، بين طيش المنشار، ومواجع الخشب! وحين تهيأ المنشار للكلام؛ كانت نسمة هواء عابرة قد غيبت ذرة النشارة بين آلاف من نظيراتها الهائمات في تيه الأبد، وفات الوقت على المنشار أن يقول: كل نشارة الدنيا لا تأتلف لتكون لوحًا من جديد.. لا تنبت غصنًا..لا ترفو جرحًا في جبين سارية.. لا تردم ندبة في جذع، وتخفق حتى أن تكون ساق كرسي مهشم، أو عودًا ضئيلًا في علبة ثقاب مهملة. أفاق المنشار وكف النجار تمرره بقوة فوق لوح نحيل، استرخى تحت حد المنشار مثل محكوم بالقتل يمد للسياف عنقه، بينما حشود النشارة في الفضاء البعيد تحتفل!