«الاستثمار العالمي»: المستثمرون الدوليون تضاعفوا 10 مرات    قيود الامتياز التجاري تقفز 866 % خلال 3 سنوات    رئيسة (WAIPA): رؤية 2030 نموذج يحتذى لتحقيق التنمية    سعود بن مشعل يشهد حفل "المساحة الجيولوجية" بمناسبة مرور 25 عامًا    السد والهلال.. «تحدي الكبار»    ظهور « تاريخي» لسعود عبدالحميد في الدوري الإيطالي    أمطار على مكة وجدة.. «الأرصاد» ل«عكاظ»: تعليق الدراسة من اختصاص «التعليم»    «التعليم»: حظر استخدام الهواتف المحمولة بمدارس التعليم العام    إسماعيل رشيد: صوت أصيل يودّع الحياة    من أجل خير البشرية    وفد من مقاطعة شينجيانغ الصينية للتواصل الثقافي يزور «الرياض»    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    مملكتنا نحو بيئة أكثر استدامة    نيوم يختبر قدراته أمام الباطن.. والعدالة يلاقي الجندل    في الشباك    بايرن وسان جيرمان في مهمة لا تقبل القسمة على اثنين    النصر يتغلب على الغرافة بثلاثية في نخبة آسيا    قمة مرتقبة تجمع الأهلي والهلال .. في الجولة السادسة من ممتاز الطائرة    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع الرباعي بشأن السودان    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    نائب أمير الشرقية يكرم الفائزين من القطاع الصحي الخاص بجائزة أميز    ألوان الطيف    ضاحية بيروت.. دمار شامل    «بنان».. جسر بين الماضي والمستقبل    حكايات تُروى لإرث يبقى    جائزة القلم الذهبي تحقق رقماً قياسياً عالمياً بمشاركات من 49 دولة    نقاط شائكة تعصف بهدنة إسرائيل وحزب الله    أهمية قواعد البيانات في البحث الأكاديمي والمعلومات المالية    الأمير محمد بن سلمان يعزّي ولي عهد الكويت في وفاة الشيخ محمد عبدالعزيز الصباح    تطوير الموظفين.. دور من ؟    السجن والغرامة ل 6 مواطنين ارتكبوا جريمة احتيالٍ مالي    قصر بعظام الإبل في حوراء أملج    كلنا يا سيادة الرئيس!    القتال على عدة جبهات    معارك أم درمان تفضح صراع الجنرالات    الدكتور ضاري    التظاهر بإمتلاك العادات    مجرد تجارب.. شخصية..!!    كن مرناً تكسب أكثر    نوافذ للحياة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    الرئيس العام ل"هيئة الأمر بالمعروف" يستقبل المستشار برئاسة أمن الدولة    صورة العام 2024!    ما قلته وما لم أقله لضيفنا    5 حقائق من الضروري أن يعرفها الجميع عن التدخين    «مانشينيل».. أخطر شجرة في العالم    التوصل لعلاج فيروسي للسرطان    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي في دورته الثانية للعام ١٤٤٦ه    وزير الخارجية يطالب المجتمع الدولي بالتحرك لوقف النار في غزة ولبنان    استعراض السيرة النبوية أمام ضيوف الملك    أمير الشرقية يستقبل منتسبي «إبصر» ورئيس «ترميم»    الوداد لرعاية الأيتام توقع مذكرة تعاون مع الهيئة العامة للإحصاء    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الميت على الأمير ناصر بن سعود بن ناصر وسارة آل الشيخ    أمير منطقة تبوك يستقبل القنصل الكوري    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الأهل والأقارب أولاً    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرف العربية من خلال الشعر الجاهلي . ابن خلدون : النجارة ضرورة من ضرورات العمران في الحاضرة والبادية على السواء
نشر في الحياة يوم 09 - 03 - 2001

لم يُعْنَ دارسو الشعر الجاهلي كثيراً بما سجله هذا الشعر من مظاهر الحضارة عند العرب، على رغم قولهم انه "ديوان العرب". والواقع ان دارس الحرف اليدوية كما ذكرها شعراء ذلك العصر يجد أن الحديث الشائع عن بداوة العرب، وعن جدب صحاريهم، فيه الكثير من المبالغة، وحسبنا ان دراسة حرفة كالنجارة لذلك العهد من شأنها ان تطلعنا على أنَّ الشجر في الجزيرة العربية لم يكن قليلاً، وأن العرب استخدموا أدوات نجارة على جانب كبير من التعقيد، وكانوا يلمُّون بتقنيات نجارة لا تكون لأعراب مغرقين في البداوة.
حتى سكان الخيام المنسوجة من الشَعر أو الوبر كانوا في حاجة الى عمل النجار ومصنوعاته، وكان العرب أكثر احتياجاً الى النجارة في صنع رحال إبلهم، وهي إبل تقول المصادر انها كانت كثيرة جداً، ولا تقتصر على الإبل التي استخدمها الشعراء في ترحالهم، علماً أن إبل قوافل رحلتي الشتاء والصيف كانت كلها إبلاً لنقل البضائع، وهؤلاء يتعذر تحميلها على ظهر الجمل ما لم يكن عليه كور له هندسة وتركيب دقيقان، غير إبل المحاربين التي كانت رحالها تسمح للمحارب بتحرير يديه لاستخدامهما في الضرب والطعن، وغير إبل مَتحِ المياه من الآبار، فكيف القول في تجهيز القصور والمنازل والآطام بالأبواب والنوافذ والأثاث والموائد وأدوات الطعام؟

كانت النجارة ضرورة من ضرورات العمران في الحاضرة والبادية على السواء" هذا رأي ابن خلدون وهو أقرب مِنَّا الى العصر الجاهلي، فهو القائل في النجارة إنها "من ضرورات العمران، ومادتها الخشب" وذلك ان الله سبحانه وتعالى جعل للآدمي في كلِّ مكوِّنٍ من المكونات منافع تكمل بها ضروراته أو حاجاته، وكان منها الشجر، فإنَّ له فيه من المنافع ما لا ينحصر"، وهو يذكر بعضاً من هذه المنافع" "فأما أهل البدو فيتخذون منها العُمُدَ والأوتاد لخيامهم والحدوج لظعائنهم والرماح والقسي والسهام لسلاحهم. وأما أهل الحضر فالسقف لبيوتهم والأغلاق لأبوابهم والكراسي لجلوسهم".
والاستفادة، في نظر ابن خلدون لا تتمُّ بمجرد وضع اليد على الخامة، وهي الخشب" فالأمر يحتاج الى معالجة تجعل ما هو موجود بالقوة موجوداً بالفعل كما يقول المناطقة. فكيف عبَّر ابن خلدون عن ذلك؟ تقدم ذكره والعمد والحدوج والسلاح والأغلاق وغيرها، وقال إنَّ "الخشبة مادة لها" أي خامة بلغة عصرنا. وهي "لا تصير الى الصورة الخاصة بها إلا بالصناعة" والصناعة المتكلفة بذلك، المحصلة لكل واحد من صورها، هي النجارة على اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها الى تفصيل الخشب أولاً إما بخشب وألواح، ثم تُركَّبُ تلك الفصائل بحسب الصور المطلوبة، وهو في كل ذلك يحاول بصنعته اعداد تلك الفصائل بالانتظام الى أن تصير أعضاء لذلك الشكل المخصوص، والقائم على هذه الصناعة هو النجار".
والملاحظ أن الجاهليين لم يسمُّوا القائم على النجارة "نَجَّاراً"، ولو فعلوا ذلك لورد ذكره بهذا الاسم في شعر شعرائهم" فما يمنع مثلاً أن يقول زهير بن أبي سلمى "على كلِّ منجورٍ قشيبٍ ومفأم"، بدلاً من قوله "على قينيّ قشيب ومفأم"، ما دام "القيني" لا يدل على النجار وحده، بل على الحداد وغيره؟ الواقع أن الشعراء الجاهليين لم يستخدموا مشتقات الجذر "نجر"" فأول ما يطالعنا من هذه المشتقات قول لشاعر من شعراء "لسان العرب" وجمهرة ابن دريد، لا ندري الى أي عصر ينتمي، وهو:
صَبَبْتُ المَاءَ في النَّجْرّانِ صَبّاً
تَرَكْتُ البَابَ لَيْسَ له صَرِيرُ
ومع ذلك كان في قبائل العرب "بنو النَّجَّار". فأية أسماء حمل النَّجَّار في شعرهم؟
النَّجَّار لغة
ربما كان قول العرب إن "كلَّ صانع قين" تفسيراً لتسمية الشعراء النجار قيناً، كما فعل زهير بن أبي سلمى، في حديثه عن الرحال، وهو قوله:
خَرَجْنَ مِنَ السُّوبَانِ ثُمَّ جَزَعْنَهُ
على كلِّ قَيْنِيٍّ قَشِيبٍ ومُفْأَمِ
فهو "يعني رحلاً قَيَّنَهُ النَّجَّارُ وعَمِلَهُ"، وإن قالوا انه "نسبه الى بني القين"، وفي هذا اضطراب يذكر بالاضطراب الذي عرفناه في تعريف الحرفة عموماً، وقد عرفنا أنَّ من أسماء النجار "الإسكاف"، كما ورد في قول الشمَّاخ بن ضرار:
وشُعْبَتَا مَيْسٍ بَرَاها إِسْكَافْ،
وإن كان مرجع اللغويين في هذا المعنى هو قول الشمّاخ هذا لا غير.
والاضطراب نفسه نجده في تسمية النجار ب"النهاميّ"" إذ "النهاميّ" يعني أيضاً الراهب ويعني الحدّاد. ولننظر في هذا البيت للنابغة الذبياني:
وأَسْمَرَ مَارِنٍ يَلْتَاحُ فِيهِ
سِنَانٌ مِثْلُ بِنْراسِ النِّهَامي"
ففي شرحه أنَّ "النهام: الحداد، وقيل النجار... وقال ابو عبيدة: النهامي الراهب لنهمه بالقراءة"، وهذا شرح يتكرر في قول أوس بن حجر:
مَعِي مَارِنٌ لَدْنٌ يُخَلِّي طَرِيقَهُ
سِنَانٌ كَنْبِرَاس النِّهَاميِّ مِنْجَلُ،
فقد نقل عن "المعاني الكبير" قوله: "والنهامي النجار، فكأن السراج على منارة عملها النَّجَّار".
ثم يرد لفظ "الخفاجي" ولكن أسماً لنجار أو حداد من بني خفاجة، ومن ذكره ما جاء في بيت الأعشى الكبير:
وَأْدَفَعُ عَنْ أَعْرَاضِكُمْ وأعِيرُكُمْ
لِسَاناً كَمِقْراَضِ الخَفَاجِيِّ مِْلحَبَا.
فإن صحَّ أنه من خفاجة وهي "حيٌّ من بني عامر"، فهو نعت لنجار بعينه، لا يدل على مجموع النجارين، ولكنه يطلعنا على أنَّ النجارة كانت في هذه القبيلة، كما عرفنا من زهير ان النجار موجود في بني القين.
ويضيق المقام عن استقصاء الألفاظ الدالة على النجار. إلا أنَّ ما تقدم يشهد على وجود النجارين، كما تدل شواهد أخرى على وجود مصادر كثيرة للخشب أشار اليها الشعراء بكثرة.
الخشب ومصادره
توافر الخشب بالقدر الذي يجعل من النجارة حرفة مزدهرة، بغض النظر عن مراكز انتشارها" ذلك أنَّ البادية لم تكن معزولة عن الحواضر، وكان في امكان البدو الحصول على ما يحتاجونه، في الأسواق الموسمية، ومن خلال الرحلات التجارية وغير التجارية، وفي جملة ما حصلوا عليه خشب البيوت الخيام وخشب الرحال والسلاح والأثاث وأدوات الطعام.
ويخبرنا الشعر أن البوادي والواحات لم تعدم الأشجار الصالحة للصناعة، وحتى مكة المكرمة، وهي الموصوفة بأنها وادٍ غير ذي زرع سورة ابراهيم، الآية 37، كان في حرمها شجر صلب يصلح ان تُتخذ منه الرحال" وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه "أَذِنَ في قطع المسد والقائمتين من شجر الحرم، يريد قائمتي الرحل اللتين تكونان في مقدَّمه ومؤخَّره" الصحاح للجوهري: قَوَمَ.
وثمة مصدر لا نستبعد أن يكون العرب استدركوا منه جذوع الأشَجار وأعضائها هو الأنهار الجارفة التي كانت "تصرع الأثل والدور" كما يقول الأعشى في معرض مدحه هوذةَ بن علي الحنفي:
ومَا مُزْبِدٌ مِنْ خَلِيجِ الفُرَاتِ
يَغْشِى الإِكَامَ ويعلو الجُسُورَا
يَكُبُّ السَّفِينَ لأذْقَانِهِ
ويَصْرَعُ بِالْعَبْرِ أثْلاً ودُوراَ
بِأَجَوَدَ مِنْهُ بِمَا عِنْدَهُ
فَيُعْطِي المِئيِنَ ويُعْطِي البُدُورَا.
ذكر شجر الأثل، في هذه الصورة التي تتكرر عنده في قصيدة، يمدح فيها هوذةَ أيضاً، وقصيدة يمدح فيها النعمان بن المنذر، وصارت هذه الصورة تقليداً في الشعر، يخلص فيها الشاعر من بيان جود النهر بالماء وغيره الى جود الممدوح" وهذا النابغة الذبياني يذكر من الأشجار الخضدَ والينبوت، في أبيات تذكر مع الشجر الملاحةَ وهي التي تعتمد على النجارة طبعاً. يقول النابغة في مدح النعمان بن المنذر:
فَمَا الفُرَاتُ إِذاَ هَبَّ الرِياحُ لَهُ
تَرْمِي غَوَارِبُهُ العِبْرِينَ بِالزَّبَدِ
يَمُدُّهُ كُلُّ وَادٍ مُتْرَعٍ لَجِبٍ
فِيهِ رُكَامٌ من اليَنْبُوتِ والخَضَدِ
يوماً بأجْوَدَ منه، الخ...
وبالأسلوب نفسه يتحدث أوس بن حجر، مادحاً، فيذكر الخشب الآتي من منطقة المروت، وهو خشب الطلح وخشب الضال:
ومَا خَلِيجٌ من المَرُّوت ذُو حَدَبٍ
يَرْمِي الضَّرِيرَ بِخُشْبِ الظَّلْحِ والضَّالِ،
والأخبار كثيرة عن الأشجار في الحجاز واليمامة وغيرهما، غير أشجار اليمن والعراق.
ومن الخشب المذكور في الشعر خشب الجوز، ووصفوه بالصلابة، حتى أنهم صنعوا منه التروس" وهذا يعني انه يتحمل الضرب الشديد" يقول النابغة الجعدي:
كَأَنَّ مِقَطَّ شَرَاسِيفِهِ
إلى طَرَفِ القُنْبِ فالمِنْقَبِ
يُطمْنَ بِتُرْسٍ شَدِيدِ الصِّفَاقِ
من خَشَبِ الجَوْزِ لم يُثْقَبِ
حتى أنَّ النابغة الجعدي افترض ان سفينة نوح "بنِيَتْ من خشب الجوز لصلابته" يقول:
يَرْفَعُ بِالْقَارِ والحَدِيدِ من
الجَوْزِ طِوَالاً جُذوعها عُمُماَ.
ونلاحظ، مع كثرة الاشارات الى الأشجار والخشب كَثْرةً يضيق المقام عنها، أنهم كانوا يصنعون ألواح الخشب ويراكمونها كما نفعل في عصرنا. وأشار أمرؤ القيس الى ذلك في معرض حديثه عن هزيمة خصومه بني غنم بن دودان، فهو يقول:
حَتَّى تَرَكْناهُمُ لَدَى مَعْرَكٍ
أَرْجُلُهُمْ كَالْخَشَبِ الشَّائِلِ"
أي كالخشب المتراكم...
وتردد كثيراً ذكر نوعين من الشجر استخدما في حرفة النجارة، هما شجر الشيزى وشجر الميس" ومن الأول صنعوا جفان الطعام وبكرات الآبار ومن الثاني صنعوا رحال الإبل، ونختار من كثيرٍ قولَ زهير بن أبي سلمى في مدحه هرم بن سنان وذكره الشيزى:
إِذاَ مَا غَشُوا الحدَّادَ فُرِّقَ بينهم
جِفَانٌ مِنَ الشِّيزَى وَرَاءَ جِفَانِ
وأما الميس، ونصَّ اللغويونَ على أنه خشب تصنع منه الرحال، فذكره الشماخ في قوله:
وشُعْبَتَا مَيْسٍ بَرَاها إسكاف.
وفي ديوان الشعر العربي الكثير من الشواهد التي تغني البحث في مصادر الخشب، غير الشواهد الكثيرة على عُدَّةِ النجار من مناشير ومناجل ومبارد وغيرها.
عُدَّة النَّجَّار
استخدم النجار العربي عدة مختلفة الأشكال والأحجام والغايات، وعالج بها الخشب من لدن وجوده بالقوة في الشجر حتى صيرورته أدواتٍ عظيمة أو صغيرة، كالسفن والرحال والأثاث والجفان والنبال وغيرها. ولا شك في أنه استدرك هذه العُدَّة من عند الحداد، وهو ما سيظهر لنا عند دراستنا حرفة الحدادة.
والى جانب عدة النشر والنجر والقياس، استخدم النجار الغراء والمسامير، واستخدم من المبارد مبرداً من حديد ومبرداً من جلود الأسماك وغير ذلك. ويكثر ذكر المستشار، وهو يسمى عندهم الميشار" وممن ذكروه أوس بن حجر في معرض حديثه عن الصياد وكلابه" يقول:
يَسْعَى بِغُضْفٍ كَأَمْثَالِ الحَصَى زَمَعاً
كَأَنَّ أحْنَاكَهَا السُّفْلَى مَآشِيرُ.
واللغويون يقولون: "وَشَرَ الخشبة وَشْراً بالميثار، غير مهموز، نشرها".
والمعنى الذي أورده أوس يتكرر في قول النابغة الذبياني:
مِنْ حِسِّ يَسْعَى تَحْتَهُ شُرُعٌ
كَأَنَّ أحْنَاكها السُّفْلَى مَآشِيرُ.
ووجه الشبه الحدة في أسنان المنشار، وصرح بذلك ذو الإصبع العدواني مشبهاً حدة لسانه بحدة أسنان المنشار" فقال:
أُنْحِي على حُرِّ الوُجُوهِ
بِحَدِّ مِيشَارٍ ضَرُوسَا
ومن عدة النجار، المنجل، وهو أيضاً مذكور بكثرة في شعرهم، وممن ذكروه على سبيل التشبيه طرفة بن العبد، ذِكْراً ينبئ أن النجار كان يستعمل المنجل في تشذيب الخشب" يقول:
مَنْ مُبْلِغٌ أَحْيَاءَ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ
بِأَنَّ ابْنَ عَبْدٍ رَاكِبٌ غَيْرُ رَاجِلِ
عََلَى نَاقَةٍ لَمْ يَرْكَبِ الفَحْلُ ظَهْرَهَا
مُشَذَّبَةٍ أطرافها بِالمْنَاجِلِ.
وهو يعني صليباً صُلِبَ عليه، وهو صليب من خشب شذبت أطرافه بهذه الآلة.
واستخدموا في قطع الشجر الفأس والكرزين أو الكرزن، وأكثرَ الشعراءُ من ذكرهما تقول الخنساء:
مَا لِلْمَنَايَا تُغَادِينَا وتَطْرُقُنَا
كَأَنَّنَا أَبَداً نُحْتَزُّ بِالْفَاسِ؟
ويقول قيس بن زهير العبسي ذاكراً الفأس بلفظ الكرزن مجموعاً:
فَقَدْ جَعَلتْ أكْبَادُنا تَجْتَوِيهُم
كَمَا يَحْتَوِي سُوقَ العِضَاةِ الكَرَازِنَا.
فهو يذكر شجر العضاة، ويشبه قطع الأكباد بقطعه بواسطة هذه الآلة. ولا يكتفي الشعراء بالحديث عن القطع والنشر، بل يشيرون كثيراً الى نحت الخشب كما ينحته نجارو اليوم. بواسطة القدوم، وورد ذكرها على سبيل الحقيقة وعلى سبيل المجاز" ومن ذلك قول المرقش الأصغر:
يَا بِنْتَ عَجْلاَنَ مَا أَصْبَرنِي
على خُطُوبٍ كَنَحْتٍ بِالقْدُومْ.
وأما السَّفَنُ، وهو أشبه ب"البرداخ" في عامية عصرنا هذا، أو ما يسمى "ورق الزجاج"، واستخدم في النحت و"التنعيم"، وقيل انه صنع من جلد سمك خشن أو جلد ضَبّ، وجاء في اللسان مذكوراً مع آلة نجارة أخرى هي المبراة، وهو قوله:
وأَنْتَ في كفِّكَ المِبْرَاةُ والسَّفَنُ.
والسفن عند الأعشى المبرد" قال في مدح قيس بن مَعْدِ يْكَرِب الكندي:
وفي كُلِّ عَامٍ لَهُ غَزْوَةٌ
تَحُتُّ الدَّوَابِرَ حَتَّ السَّفَنْ.
وذكره عديُّ بن زيد، مشيراً الى واحدة من تقنيات النجارة وهي التسوية والغمز، فقال:
رَمَّهُ البَارِي فَسَوَّى دَرْأَهُ
غَمْزُ كَفَّيْهِ، وتحليق السَّفَن.
والمبراة التي ذكرها لسان العرب، آلة من آلات النجار، بدليل قول الجوهري في صحاحه، تعليقاً على قول الشاعر "وأنت في كفك المبراة والسفن": يقول: "إنك نجار". وكانت المبراة ذات شفرتين، بدليل قول جندل الطهوي:
إِذَا صَعِدَ الدَّهْرُ الى عِفْرَاتِهِ
فَاجْتَاحَهَا بِشَفْرَتيْ مِبْراتِهِ.
وذكروا في ما ذكروا آلة اسمها الطريدة، وآلة اسمها البيرم، وثالثة هي القصبة لتقويم النبال، وذكروا الغراء وسموه "الغمجر"، واستعمل في الصناعة والترميم. وذكروا بكثرة استعمال المسمار بلفظه وبمرادفين هما "الدسار" و"السك" أو "السكي". وورد في معرض الحديث عن الباب، والحديث عن بناء السفن، والحديث عن صنع الرحال خصوصاً، لاحتياجها الى ما يمتنها ما دامت وسيلة ركوب وحَمْل تتلقى الثقل والضغط.
ومن ذكر المسمار بلفظ السكي قول أعشى قيس يشبه به مَنْ يجتاز الصحراء" فكلاهما يحتاج الى قوة دافعة:
ولا بُدَّ مِنْ جَارٍ يُجيزُ سَبِلَهَا
كَمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ في البَابِ فَيْثَقُ،
وقالوا إن الفيثق: "النجار أو البواب أو الملك".
ومن ذكره بلفظ الدسار، قول بشر بن أبي خازم في وصف سفينة كان هو بين ركابها:
مُعَبَّدَةُ السَّقَائِفِ ذَاتُ دُسْرٍ
مُضبَّرَةٌ، جَوَانِبُها رَدَاحُِ،
وفي البيت ذكر لتعبيد الخشب بالقار" فالمعبدّة: "السفينة المُقَيَّرة" كما قال الجوهري في صحاحه.
وأما المسمار فذكره كعب بن زهير في وصف كور منقوش مُسمَّر، فقال:
تَرَكْتُ بِهَا مِنْ آخِرِ الليلِ مَوْضِعي
لَدَيْهِ ومُلْقَايَ النَّقِيشَ المُسمَّرا
كما ذكره كعب وقد انتزعت مسامير الكور فانفرج، يشبه به فَمَ حمار وحشي، فقال:
وفُوهُ كَشَرْخِ الكُورِ خَانَ بِأَسْرِهِ
مَسَامِيرُهُ فَحِنْوُهُ مُتَفَاقِمُ.
هذا بايجاز شديد ما يطلعنا عليه الشعر الجاهلي من أمر النجارة في جزيرة العرب، من حيث مصادر الخشب وعدة النجار وبعض تقنيات النجارة، وهذه التقنيات يطول الحديث عنها، ويتعذر الإلمام بها إلماماً وافياً الا عند الحديث المفصل عن صناعة الرحال أو صناعة السفن وغيرها.
ويبقى أن نستنتج استنتاجاً أن النجار استعان بآلات قياس، وأنه عمد الى تفصيل الخشب قبل أن يلاحم بينه، ولنا شاهد على ذلك هو صناعة الجنان الكبيرة" ففي خبر عن موائد عبدالله بن جدعان أن بين من حضر احدى هذه الموائد الشاعر أمية بن أبي الصلت، فقال يصف جفنة الشيزى:
لَهُ دَاعٍ بِمَكَّةَ مُشْمَعِلٌّ
وآخَرُ فَوْقَ دَارَتهِ يُنَادِي
الى رُدُحٍ من الشِّيَزى مِلاَءٍ
لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بِالِّشهَادِ.
وفي نعت جفان الشيز ب"الردح" يقول ابن دريد في "جمهرة اللغة": "وجفنة رداح: عظيمة"، ولا ندري أهي صفة غالبة على جفان الشيزى، أم هي صفة لهذه الجفنة التي يملكها عبدالله بن جدعان، حتى استظل بها الرسول عليه الصلاة والسلام لعظمها، وقال: "كنت أستظل بظل جفنة عبدالله بن جدعان صكَّة عُميّ، أي وقت الظهيرة". ولا نملك بإزاء هذه الروايات غير أن نستنتج ان الجفان قُدَّت من شجر عظيم، وهذا رأي لا نستطيع الدفاع عنه إلا بافتراض أن النجار نحت الجفنة في الشجرة ثم فصلها عنها. والأكثر منطقاً ان نقول إنه فَصَّلَها قطعاً ثم لاحم بينها. وعلى أية حال فإن عبارة في "لسان العرب" ربما تحل اللغز، وهي قوله: "وكذلك قبائل القدح والجفنة إذا كانت على قطعتين أو ثلاث قطع". فإن صَحَّ أن من الجفان ما صُنع قِطَعاً ثم وُصل، كان علينا تخيل الدقة واعتماد الحساب والمقاييس من قِبَلِ النجار، حيث يمكنه ان يلاحم ما بين قطع متساوية متشابهة في تقعرها واحديدا بها، فيجعلها جفنة. والثابت أن بين آلات النجار آلة تشبه "المخرطة" هي "الطريدة"، وقد ذكرها الشماخ مقترنة بذكر "الثقاف"" فكأنهما معاً يقوّمانِ السهم ويزيلان ما به من زوائد، قال:
أَقَامَ الثِقَافُ والطَّرِيدةُ دَرْأَهَا
كَمَا قَوَّمَتْ ضِغْنَ الشَّمُوسِ المَهَامِزُ.
إذاً، فالنجارة موجودة في جزيرة العرب، وكانت تلبي احتياجاتهم، بدليل ان المصنوعات التي نسبت الى مصادرها كانت مصنوعات مدن وقرى عربية، وكانت مصنوعات قبائل عربية. وكان الشعر الجاهلي عيناً على هذا الميدان من ميادين الحضارة، تراه وتتحرى تفاصيله، وهو بذلك شاهد أمين على أن العرب لم يكونوا فرسان حرب وفرسان كلمة فحسب، بل كانوا على جانب من التحضر المادي لا يجوز تجاهله.
* باحث في شؤون التراث الشعبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.