إن الأزمات التي تعصف بالوطن العربي ليست وليدة اللحظة التاريخية التي نعيشها، وإنما هي نتيجة طبيعية لتاريخ من السياسات التدميرية والإرهابية التي مارستها قوى الاستعمار تجاه الوطن العربي الذي يُراد له أن يكون ضعيفاً ومنهكاً ومفككاً ومنقسماً على ذاته.. مايو 1916م، يُؤرخ لبداية مرحلة جديدة من مراحل تعميق الأزمات في المنطقة العربية بشكل خاص، ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، فبعد سيطرة سلبية واستبداد بغيض مارسها المستعمر التركي العثماني على الأراضي العربية لمدة قاربت الستة قرون، بدأت مرحلة جديدة من مراحل الاستعمار البغيض للأراضي العربية مارسها المستعمر البريطاني والفرنسي من خلال اتفاقيات سرية متعاقبة أهمها وأولها "اتفاقية سايكس-بيكو" التي كان هدفها اقتسام الأراضي العربية بين بريطانيا وفرنسا لتكون مناطق نفوذ استعمارية بعد زوال الاستعمار التركي العثماني، لقد كانت تلك الاتفاقية السرية مجرد نقطة البداية لمرحلة جديدة من مراحل المعاناة العظيمة التي ستعانيها الشعوب العربية على امتداد الوطن العربي. نعم، لقد أسست اتفاقية سايكس - بيكو لمرحلة غير مسبوقة في تاريخ الاستعمار البغيض على مر التاريخ؛ لأنها تجاوزت مرحلة سرقة الثروات والموارد والخيرات واستبداد الشعوب إلى مرحلة سرقة الأراضي والتصرف الكامل بملكيتها وكأنها أراضٍ خالية لا أصحاب لها ولا شعوب تسكنها، ومن هذا المبدأ الاستعماري البغيض أعلنت الحكومة البريطانية قرارها، الذي عُرف ب "وعد بلفور" في نوفمبر 1917م، بدعم تأسيس "وطن قومي لليهود" والصهاينة على أرض فلسطين العربية، ومن هذه البدايات البغيضة للاستعمار، بدأت الأزمات في المنطقة العربية تتعمق، بداية بقيام المُستعمر الفرنسي بسرقة "لواء الاسكندرونة العربي" ومنحه لتركيا في 1939م. وتبع هذه السرقة للأراضي العربية سرقة عظيمة لأرض فلسطين التاريخية والتي عرفت بأحداث النكبة 1948م حيث قتل وشرد وهجر بسبب تلك السياسة الاستعمارية ملايين الفلسطينيين الذين سرقت بيوتهم وأراضيهم، وجاءت بعدها أحداث النكسة 1967م حيث سُرقت بعدها أراضٍ عربية شاسعة، واحتل المسجد الأقصى، وتتتابع الأحداث المتعلقة بهذه القضية المحورية عاماً بعد عام حتى أصبحت أزمة عميقة تتجاوز تأثيراتها السلبية المنطقة العربية لتؤثر يومياً بالسياسة العالمية. أما فبراير 1979م، فيُؤرِخ لبداية أسلوب جديد من أساليب الاستعمار والذي يتمثل بتواجد المستعمر في المنطقة من خلال أدواته التي تضمن للمستعمر مواصلة تنفيذ أجندته الاستعمارية، واستمرار وصوله للموارد والمنافع والمصالح بأبسط الطرق وأقل الجهود، فبعد أن قرر المُستعمر مغادرة منطقة الخليج العربي قرابة العام 1970م، عمل باحترافية عالية ليضمن استمرار تواجده وسياساته الاستعمارية البغيضة في المنطقة العربية؛ فكانت إيران -بعد إسرائيل- هي المكان المناسب، والخميني -بعد الصهاينة- هو الشخص المناسب والأداة التي ستضمن استمرار تحقيق أهداف المستعمر الغربي في المنطقة العربية، فبعد أن كانت إيران الشاه على وفاق سياسي جيد مع الدول العربية، حملت طائرة "إير فرانس" الخُميني من باريس حيث كان يقيم إلى طهران ليتسلم السلطة بديلاً عن الشاه الذي غادر إيران، ومُنذُ تلك اللحظة التي نزل فيها الخميني من على سُلم طائرة "إير فرانس" -محمياً عند نزوله بعدد من رجالات القوات الجوية غير الإيرانية- بدأت مرحلة جديدة وأسلوب جديد من مراحل الأزمات ونوعيتها في المنطقة العربية. فبدلاً من أن يبدأ ببناء إيران وخدمة الشعب الإيراني، بدأ الخُميني حُكمه بإعلان حرب طائفية بين الشيعة الاثناء عشرية مع جميع المذاهب الإسلامية الأخرى، لقد كانت الطائفية التي تبناها الخُميني، وأقام المؤسسات السياسية والدستورية لخدمتها، نقطة البداية لمعظم الأزمات السياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدتها المنطقة العربية، فتحت شعار الطائفية وتمثيل الشيعة الاثناء عشرية، تدخلت إيران الخُمينية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وسعت لزعزعة أمن وسلم واستقرار المجتمعات والدول العربية، وتبنت دعم وتمويل الميليشيات والجماعات والتنظيمات الطائفية والإرهابية في الدول العربية. ومن منطلق الطائفية البغيضة التي تبناها الخُميني، استمرت الحرب العراقية - الإيرانية ثمانية أعوام حتى دمرت اقتصاد ومالية ومجتمع الدولتين، وانقسم المجتمع اللبناني، ودمرت وحدته الاجتماعية، وغاب سلمه الاجتماعي، بعد أن أسست إيران الخُمينية ميليشيا طائفية تحت اسم "حزب الله" في 1982م. وتأثرت وحدة العراق الاجتماعية والثقافية والسياسية والأمنية، ودمر اقتصاده وبنيته التحتية وسلمه الاجتماعي، بسبب الميليشيات الطائفية المتطرفة التي أوجدتها سياسة الخُميني الطائفية، ودخل اليمن في أزمات سياسية متعاقبة، وحروب أهلية طاحنة، وصراع طائفي غير مسبوق، بسبب الميليشيا الطائفية المتطرفة، "جماعة الحوثي"، التي أوجدتها ودعمتها ومولتها سياسة الخميني الطائفية، وقتل مئات الآلاف من أبناء سورية، وتشرد وهجر الملايين من السوريين، ودمر الاقتصاد السوري وبنيته التحتية، وانقسم المجتمع السوري على أساس طائفي بسبب الميليشيات الطائفية الإيرانية والجماعات الإرهابية التي تدعمها وتمولها سياسة الخُميني الطائفية، وبالإضافة لهذه الأساليب التدميرية للمجتمعات العربية من خلال الميليشيات المتطرفة التابعة للسياسة الطائفية الإيرانية، عملت سياسة الخُميني الطائفية على إرسال خلاياها التجسسية للدول العربية، بهدف زعزعة أمن واستقرار المجتمعات والنظم السياسية العربية، وذلك عندما لم تتمكن من بناء ميليشيات طائفية داخل تلك الدول. وفي مارس 2004م، طرح الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش "مشروع الشرق الأوسط الكبير" حيث تضمنت أهدافه المعلنة تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الوطن العربي، بالإضافة لأهداف رئيسة أخرى أهمها إعادة تشكيل الخارطة السياسية والجغرافية في الوطن العربي. وتبع هذه السياسات الاستعمارية أزمات عظيمة في بعض المجتمعات العربية تمثلت بالاحتلال المباشر للأراضي كما حدث في العراق 2003م، والدعوة لتقسيم الدول العربية، وبتشجيع ودعم وتمويل حالة الانقسام الداخلي في المجتمعات العربية، بالإضافة لتبني وإطلاق الدعوة التدميرية لإسقاط النظم العربية أواخر عام 2010م -حيث أطلقت عليها الدول الاستعمارية مُسمى "الربيع العربي"- والتي أثرت تأثيراً سلبياً عظيماً على حالة الأمن والسلم والاستقرار في بعض المجتمعات العربية، وما زالت آثارها التدميرية قائمة. إن الإدراك الحقيقي للتاريخ الاستعماري البغيض الذي مرت به المنطقة العربية سواء بشكل مباشر بعد اتفاقية سايكس - بيكو، أو عن طريق أدوات الاستعمار في المنطقة والتي تمثلت بشكل رئيس بوصول الخُميني للسلطة في إيران، أو عن طريق الجماعات والتنظيمات والأحزاب التابعة لقوى الاستعمار الغربية مُنذُ 2010م، يجعلنا ندرك مدى عُمق الأزمات التي صنعها الاستعمار وأدواته في المنطقة لتضمن هذه القوى الاستعمارية الإقليمية والعالمية عدم قيام أمة عربية قوية وقادرة على التأثير في السياسة الدولية، وليسهل بعد ذلك استنزاف موارد وثروات وخيرات الوطن العربي. نعم، إن الأزمات التي تعصف بالوطن العربي ليست وليدة اللحظة التاريخية التي نعيشها، وإنما هي نتيجة طبيعية لتاريخ من السياسات التدميرية والإرهابية التي مارستها قوى الاستعمار تجاه الوطن العربي الذي يُراد له أن يكون ضعيفاً ومنهكاً ومفككاً ومنقسماً على ذاته. وفي الختام من الأهمية القول إن على أبناء الأمة العربية العمل بعقلانية شديدة وحكمة عظيمة وبذل الجهود الجبَّارة لتجاوز الأزمات القائمة مهما بلغت حدتها، والتغافل عن الخلافات المتراكمة مهما تعددت مصادرها، وتغليب المصلحة العربية العليا فوق أي مصلحة، وتقديم أولوية الأمن القومي العربي على أي أولوية أخرى، لأنهم جميعاً في نظر الآخر أعداء بصفتهم عرباً بغض النظر عن جنسياتهم الوطنية ومواقعهم الجغرافية.