"الفكرة التي أطلقها الإنسان الغربي بأنه شب عن الطوق ودخل مرحلة الرشد وأنه ليس في حاجة إلى توجيه ديني أدخلته في حالة ارتباك تاريخي ومتاهة وحيرة فكرية. فالحضارة المادية وإن كانت قدمت إنجازات للإنسانية في مختلف المجالات، إلا انها قاصرة أن تقدم للإنسانية ماتحتاج إليه من روحانيات وأخلاقيات.." تقوم العلاقة ما بين الفكر الديني والعقلانية -أحد مرتكزات الليبرالية- على الجدل والصراع وليس على الحوار، إذ إن كل تاريخ الغرب الديني ليس إلا صراعًا بين التيار الإيماني والتيار العقلاني وقد تمكنت العقلانية في القرن التاسع عشر بعد صراع مع الكنيسة من تغييب الفكر الديني. بخلاف الفكر الإسلامي الذي لا يوجد فيه تضاد ما بين العقل والنقل والعلم والإيمان فالأساس في منظومة المفاهيم الإسلامة التكامل. لقد بدا واضحًا تأثير العقلانية في الفكر الغربي وذلك بعد أن تبنت الليبرالية الأوروبية تكوين نظام فكري ليحل محل الفكر الديني، فحلت الفلسفة مكان الفكر الديني فاستقلت بالطبيعة والإنسان والمجتمع بعيداً عن الدين، فنشأ تيار ليبرالي - عقلاني يقوم على فرض أساسي وهو أن العصر بظروفه وأحواله وعلومه ومعارفه وتقدمه وتطوره لا يتلاءم معه الفكر الديني. لقد نشأت العقلانية في منتصف القرن الثاني عشر ومرت بمراحل متعددة وتحولت في عصر النهضة الأوروبية إلى فكرة مسيطرة على الأذهان جاعلة العقل هو الحاكم على كل تغير ومحررة العقل العلمي من سلطان الكنيسة وبخاصة العلوم الطبيعية (التجريب والملاحظة). ومن ثم إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية محاولة إخضاعها للنقد العقلي معتبرة العقل المصدر الوحيد للمعرفة ومستبدلة النظام القديم بنظام اجتماعي جديد يحل بديلاً عنه يرتكز على العقل. وكان من أبرز المفكرين الذين قادوا الحركة العقلانية: ولف ولسنج ونيتشه في ألمانيا، وفولتير ويبلي ولاندي في فرنسا، ولوك في إنجلترا. ويعد الفكر الديكارتي البداية الأولى لتحرر العقل من هيمنة الكنيسة والبحث عن مصادر أخرى للمعرفة من غير طريق الدين. يقول جون لويس: (إن ديكارت أحل البحث الحر محل الخضوع لسلطة الكنيسة، والعقل محل الإيمان، ومؤسس فلسفة التنوير وفصل العلم عن الإيمان مؤكداً على عقلانية العلم القائمة على نظرية التجريب والملاحظة والتي يرى من خلالها أن معرفة حقائق الكون لا تتم إلا بالتجربة الحسية وحدها). يقول كانط: إن قرننا هو بشكل خاص قرن النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء. ثم جاء أوجست كونت بالمذهب التجريبي والذي يعني به عدم الإيمان إلا بما كان محسوسًا. وعلى إثر ذلك نشأ ما يعرف بالحركة العقلانية التي تعني: استقلال العقل بالكامل. وبذلك انتقلت أوروبا من دين يخاصم العقل إلى عقلانية تخاصم الدين. وقد عد المفكرون الليبراليون العقلانية الموجه الحقيقي للحرية في الفكر الليبرالي حيث بمقدور كل إنسان حل قضاياه ومشكلاته بطريقة عقلانية ذاتية.. ونتيجة لهذا تكون لدى الليبراليين دين جديد دين عقلي يقدس العقل. وبذلك أصبحت الليبرالية العقلانية رؤية شاملة للواقع تحاول تحييد الدين والقيم المطلقة والغيبيات معتبرة المعرفة المادية المصدر الوحيد الذي يمكن الموثوق به، والتي مصدرها العقل. ومع ذلك فإن الحركة العقلانية والتي كانت قد حررت الإنسان الأوروبي من سلطان الكنيسة في القرون الوسطى أنها لم تسلم من النقد حتى من داخل الفكر الغربي نفسه. فالعقلانية نظرية فكرية فلسفية نشأت خارج الدين وعلى وجه الدقة من نظريات علم الفلسفة وقد شيد بناءها فلاسفة الغرب وعلماء الاجتماع فيه. (فالعقل -كما يعترف العقلانيون أنفسهم- ليس حكمه مطلقاً بل معرض للخطأ في التقدير، والانحراف في التصور). ويقول ادغار موران: (يبدو لنا اليوم أنه من الضروري عقليًا نبذ كل تأليه للعقل، أي نبذ كل عقل مطلق ومكتفٍ بذاته). هذه الفكرة التي أطلقها الإنسان الغربي بأنه شب عن الطوق ودخل مرحلة الرشد وأنه ليس في حاجة إلى توجيه ديني أدخلته في حالة ارتباك تاريخي ومتاهة وحيرة فكرية. فالحضارة المادية وإن كانت قدمت إنجازات للإنسانية في مختلف المجالات، إلا انها قاصرة أن تقدم للإنسانية ماتحتاج إليه من روحانيات وأخلاقيات. وقد قال المفكر شفيترز في كتابه (الحضارة والأخلاق): "إن حضارتنا تمر بأزمة حادة ترجع إلى عدم التوازن بين تقدمنا المادي وتقدمنا الروحي إن أكبر كارثة نعانيها تقديم الحياة المادية على الحياة الروحية". ولاحظ كارل جاسبرز عندما قال: (وإننا ندرك معنى انهيار المعايير الصحيحة وندرك كيف يكون العالم قلقًا حينما لا يدعو إلى تماسك إيماني). إن الأمر بوضوح بحيث يقرر فيلسوف لا ديني هو برتراند رسل أنه: (لم يعد للمذاهب العقدية ولا القواعد التقليدية للأخلاق والسلوك سلطانها الذي كان لها من قبل وكثيرًا ما يستولي الشك على تفكير الناس -رجالًا ونساءً- فيما هو حق وما هو باطل، وعندما يحاولون أن يصلوا إلى رأي في ذلك يواجهون عقبة لا يطيقونها إذ ليس هناك أمامهم هدف معين يسعون إليه أو مبدأ واضح يهتدون به). ويحدد د. هوفمان معاناة الرجل الغربي ب(فقدان المعنى وغياب أي هدف أسمى للحياة.. نقص روحي ينذر بتحويل الوجود الفردي إلى مهمة يائسة عديمة المعنى.. يصاحب هذه الورطة روح تشكيكية بعيدة عن اليقين والاطمئنان.. تأكد للإنسان الغربي أن المستقبل لا يحمل ما يتوقعه). وهذا مقطع من الكاتب النمساوي محمد أسد: (إن الإنسان الغربي أسلم نفسه لعبادة المادة لقد فقد منذ وقت طويل براءته فقد كل تماسك داخلي.. لقد أصبحت الحياة في نظره لغزاً.. إنه مرتاب شكوك منفصل عن أخيه الإنسان ولكي لا يهلك في وحدته وفرديته فإن عليه أن يسيطر على الحياة فحقيقة كونه على قيد الحياة لم تعد وحدها قادرة على أن تشعره بالأمن الداخلي ولذا فإن عليه أن يكافح ويتألم في سبيل هذا الأمن.. لقد قرر الاستغناء عن كل توجيه ديني.. فالحلقة المفقودة التي تسبب معاناة الغربيين هي تآكل التكامل الداخلي للشخصية الأوروبية).