يراسلني، منذ أَسابيع، عددٌ من متابعي "الرياض" حول مقالاتي المتتالية عن الشعر تحليلًا نظريًّا بدون نشْر أَيِّ قصيدة، لي أَو لسواي، توْضح عمليًّا فكرتي النظرية. فيا الأَصدقاء: القصيدة وحدها لا تعطي وهجًا للشعر ولا تختزل فضاءَه. ثمة شِعر في غير القصيدة قد لا يتوفَّر فيها. ليس في كل قصيدة شعر إِنما في كل شعر قصيدة، القصيدة لا تختصر الشعر وليست مرآته الوحيدة. للشعر مرايا كثيرة، واحدةٌ منها هي القصيدة. أُونطولوجيًّا (الأُونطولوجيا = علْم الكائنات، وهي غير الأَنطولوجيا: المنتخبات) الشعر حالة نفسية وليست حدَثًا كتابيًّا. بهذه الكينونة، جوهرُ الشعر يكمُن في ما يخلقه من توهُّج، من تأْثير، من مشاعر.. في القلب أَو النفس أَو الروح. من هنا أَن الشعر موجود في غير مكان مأْلوف، مكتوبًا جاء أَو مرئيًّا أَو مسموعًا. المهم: ما يخلق فينا من اقتبال ورعشة جمال. قد نجد شعرًا في حوار مسرحي، في لوحة كوريغرافيّة، في مقطوعة موسيقية، في قصيدة، في تَفَتُّح وردة على شباك، في ضحكة طفل بريْء، في نَغْوَة طفلة تكاغي أَمام وجه أُمها، في مشهد غروب الشمس تنحني على سرير المساء، في زقزقة بلبل على غصن مزْهر، في لوحة زيتية أَو مائية، في عبارة ضمن رواية، في مقال أَدبي يكتبه شاعر، في جواب شفهي مغاير.. "مغاير"، بلى، أَقصدها هذه الكلمة: الشعر أَصلًا هو الكلام (مكتوبُهُ أَو ملفوظُه) مغايرًا عن الكلام العادي المأْلوف المستهلَك المستعمل. هو المختلِف عن العادي. هو الخارج عن المأْلوف. هو المغاير عن المتَّبع. هو اعتمادُ الإِبداع لا الاتِّباع. غير أَن العرب، وربما سواهم أَيضًا، حصروا الشعر في ما سوى وحدة القصيدة. اشتغلوا عليها. قَونَنُوها. قالوا إِنها لا تُسمى قصيدة إِلَّا إِذا بلغت سبعة أَبيات فأَكثر. وضعوا لها ضوابط: الصدر، العجُز، الروي، القافية، الجوازات.. وتبسَّطوا في أَحوالها حتى حوَّلهم التبَسُّط عن البحث في الشعر خارجَ القصيدة. أَولوا اهتمامهم للشعر أَكثر من النثر فأَخذ الشعر جُلَّ الوهج، وأَنتج العرب في حقَب عدة قصائد أَكثر من نثائر. ركزوا على القصيدة وأَشاحوا عن الاهتمام بالنثيرة. وفي مناهج المدارس، وحتى الجامعات، نصوص شعرية أَكثر من النثر. مع أَن في النثر العربي روائعَ تفوق النتاج الشعري في مختلف العصور الأَدبية. وللناثرين العرب في مراحل الأَدب العربي نصوص تضاهي قصائد تلك المراحل متانةً وسكبًا وجمالًا. إِذًا: القصيدة وحدها لا تعطي وهْج الشعر ولا تختزل فضاءَه. والشاعرُ شاعرٌ في كل ما يكتب ويقول، طالما هو مغاير في أَيِّ ما يكتب (شعرًا، نثرًا، مقالًا، حوارًا...) وفي كلِّ ما يقول (كلامًا، خطابًا، مخاطبةً، محادثة...). المغايرة قاعدةُ الحالة التي يخلقها الشعر. والشاعر المغاير: ميدانه أَوسع من حدود القصيدة.