في قراءة متأنية لتقرير منتدى الاقتصاد العالمي حول التنافسية الرقمية الذي تم إصداره مؤخراً من المركز الأوروبي للتنافسية الرقمية بالتعاون مع الكلية الأوروبية لإدارة الأعمال، وما أشاد به التقرير من صدارة سعودية في التنافسية الرقمية على مستوى دول مجموعة العشرين، حيث حلت في المركز الثاني بعد الصين، فإنه من الضروري قراءة ما الذي تعنيه هذه الصدارة السعودية؟ وما القضايا التي التفت إليها هذا التصنيف، وكانت ذات أثر في تقدم المملكة وتصنيفها عالمياً؟. يشير التقرير ابتداء إلى اختلافه عن تقارير التنافسية الأخرى التي ينشرها، فتقرير التنافسية الرقمية يركز على عاملين أساسيين في تقويم وتصنيف أكثر من 140 دولة حول العالم، الأول: متعلق بالبيئة الرقمية عموماً بما يشمل الاستثمار الجريء، وتسهيلات بداية المشروعات، وجودة قوى العمل وتنوعها، ويركز العامل الثاني على العقلية التي تدير هذا التحول الرقمي ومنهجيتها في قيادة هذا التحول، بما يشمل مستوى المهارات الرقمية، والتوجه العام نحو مخاطر ريادة الأعمال، وسعة الخدمات الرقمية المقدمة، وتبنى الأفكار التحولية. وخلافاً لتقارير منتدى الاقتصاد العالمي الأخرى، فإن تقرير التنافسية الرقمية لا يقتصر في قياسه على حالة الدول المتنافسة وأدائها في عام إصدار التقرير، ولكنه يقيس كذلك مستوى التطور على مدار الثلاث سنوات الأخيرة، من خلال مؤشرات كمية تعتمد على بيانات حقيقية تم جمعها من منتدى الاقتصاد العالمي والبنك الدولي والاتحاد الدولي للاتصالات. ومع الاحتفاء الكبير بالصدارة السعودية في التنافسية الرقمية على مستوى مجموعة العشرين، إلا أن التقرير يؤكد على بعض الدروس المستفادة من تحليل تجارب الدول المميزة (والسعودية على رأسها)، والتي سيكون من المفيد تأملها والاستفادة منها في القطاعات الأخرى التي نتطلع إلى التقدم فيها بثبات وقوة، أول هذه الدروس هو سرعة التغيير الذي من الممكن أن تحدثه الدول منفردة في كل قطاع مقارنة بنقطة انطلاقها، ففي عالم التحول الرقمي -كما في غيره من القطاعات التنموية- لا يعني التأخر النسبي في البدايات عدم إمكانية التفوق والتميز لاحقاً، ولكن الأمر يعتمد على العوامل الأخرى المساندة التي يشير لها الدرس الثاني، وهو أن جميع الدول المتقدمة في التصنيف كانت لديها "خطة واضحة وشاملة" ب"مستهدفات طموحة"، إضافة إلى مشاركة برامج هذه الخطة بناءً وتنفيذاً مع جميع القطاعات الحكومية الأخرى، فالصدارة السعودية التي يبرزها التقرير هي شهادة دولية لشمولية ووضوح برامج رؤية المملكة 2030 في مجال التحول الرقمي وعلو سقف طموحاتها، كما أنها شهادة تقدير على جودة المنهجية التشاركية التي تقودها الجهات المسؤولة عن هذه البرامج، فالطريق إلى الصدارة العالمية كما يوضحه هذا الدرس يؤكد على أهمية استبدال الحلول "الترقيعية" بالخطط الشاملة، والاستعاضة عن منهجية تسيير الأعمال وتحسينها وفق أطرها الحالية إلى بناء نماذج جديدة وأهداف طموحة تتجاوز الممارسات القائمة، والعمل من خلال شراكة حقيقية وفاعلة بين القطاعات المعنية بدلاً من محاولة الاستفراد أو التقاطع والتنازع حولها. ويؤكد الدرس الثالث الذي خلص له التقرير من دراسة تجارب الدول المتصدرة إلى اشتراكها في مركزية "ريادة الأعمال" في صناعة وتسريع التحول الرقمي وبرامجه، وقدرة هذه الدول على استقطاب ودعم الرياديين الوطنيين وتطويرهم بالتعاون مع شركاء ورياديين عالميين، وما كانت فعالية "انطلاق" الأخيرة من الشركاء وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات وهيئة البيانات والذكاء الاصطناعي والاتحاد السعودي للأمن السيبراني بكثافة برامجها وتركيزها في نشر ثقافة ريادة الأعمال، ودعم الرياديين، وتفعيل برامج جديدة مع أبرز الشركاء الدوليين إلا مثالاً حقيقياً لما يدفع تصنيف المملكة إلى رأس القائمة في التحول الرقمي، ما يشير إليه هذا الدرس بطريقة غير مباشرة هو أهمية إطلاق العنان للمستثمرين والرياديين لصناعة الحراك ودفعه، فدور الحكومة في هذه الأعمال هو في الدعم للرياديين، والتحفيز لتنوع التجارب والممارسات وتشجيع الابتكار، وأخذ الخطوة الأبعد في وضع السياسات والقوانين التي تحد من التدخل الحكومي في الأعمال وتطويرها، بدلاً من الخطوة الأقرب للبيروقراطية التقليدية في مزيد من التقييد والتدخل تحت شعارات الحوكمة. على قدر ما تولده هذه الصدارة السعودية في التنافسية الرقمية عالمياً من فخر بإمكانات الوطن ودعم قيادته وإخلاص رجاله ونسائه وكفاءتهم في تحقيق رؤيته والتميز عالمياً في ذلك، فإنها تقدم أيضاً عدداً من الدروس المهمة لاستثمارها وتنفيذها في باقي القطاعات التنموية الأخرى، فما تحقق في سنوات قلائل في التحول الرقمي بتعاون وشراكة و"ريادة" القطاعات المعنية، من الممكن بل من الواجب تحقيقه في القطاعات الأخرى كذلك. والختام بهمسة دعم وتشجيع لصناع التغيير في التحول الرقمي في أهمية مشاركة تفاصيل قصص النجاح مع المؤسسات الدولية، فعلى الرغم من تصدر السعودية في عنوان التقرير وعلى رأس قوائمه، إلا أنه قد غاب عنه تفاصيل قصص النجاح وخطط العمل التي أدت لهذه الصدارة، والتي حفل بها التقرير لدول أخرى لم تقارب مستوى المملكة في هذا التقرير.