قراءة في تجربة الشاعر «معَبِّر النهاري» عبر ديوانيه (بسملة 1437ه) و(أولئك 2021م) (1) ... و(مُعَبِّر النَّهارِيْ)، شاعر يَفْتَرُّ له ثغر القصيد فيلقي لنا مباهجه وآلامه في قواف مطريات تشرئب لها أعناق القراءات الناقدة، وتستلهم منها الجمال واللغة والصور الباذخة. تدهشك القوافي العذاب، والبحور الخليلية المنسابة روعة وجمالاً، والتجديد المقولب في دائرة من التماسك الشعري التقليدي والتحديث الموسيقي الداخلي في نصوص محدودة. أقول هذا (المختصر المفيد) أو (الموجز الإخباري) قبل أن نبدأ في التفاصيل والبروتوكولات النقدية. (2) منذ العام 1438ه أهداني هذا المبدع الصديق ديوانه (بسملة) وفي نهاية العام المنصرم 1442ه حصلت من نادي أبها الأدبي على الديوان الثاني (أولئك) – رغم أنه وعدني بإرسال نسختي الموقعة وما زلت أنتظر!! -. وبعد التصفح الأولي، ثم القراءة المتأنية، ثم التعمق القرائي -بغية الحصول على المفاتيح التي يمكن أن نكاشف (الديوانين) من خلالها ونصل إلى عمق مكوناتها الجمالية والأسلوبية والشعرية- بعد كل ذلك توقفت عند ثيمة دالة ومعبرة، أو قل شفرة رامزة ومسيطرة يمكن أن تكون أحد مفاتيح الإبداع الشعري عند (معبر النهاري) بل هي عندي المفتاح الأجمل والقادر على التداخل النقدي مع هذا المنجز الشعري وهو مفتاح يتشكل عبر أيقونات مفاهيمية واضحة حقيقية، أو رامزة تلميحية. إنه مفتاح (القصيدة) ومرادفاتها أو أضدادها، أو ما يشير إليها، أو ما يحدد ماهيتها، مثل الحروف، الكلمات، الخليل، الشعر، الغناء، الموسيقى، اللغة، أسماء شعراء معروفين،... وغيرها. ومن هنا ستكون مداخلتنا حول هذا المفتاح الدلالي لسبر أغوار الديوانين وجمالياتهما القولية/ الشعرية. (3) تجيء مفردة (القصيدة) ومدلولاتها في المدونة الشعرية (النهارية) بواقع (100 مرة تقريباً) تكررت في الديوانين (بسملة) 50 مرة، و(أولئك) 51 مرة تقريباً ويتأكد ذلك بجردة إحصائية حيث نجد ما يلي: تكرار كلمة (قصيدة) 20 مرة. وتكرار كلمة (شعر) 22 مرة. وأما ورود أسماء الشعراء فبلغ 17 مرة. إذاً فنحن أمام (59 مرة) تتجلى فيها مكونات ودلالات القصيدة، ويكمل باقي (المئة) ألفاظ وإيحاءات رامزة ودالة على ذلك مثل: البوح – الشدو – الحروف – اللغة – القوافي – اللحن – الخليل – الأغاني – الموال – عبقر، القوافي – أنغام. وهذا يعني أن الموضوع الرئيس الذي يشتغل عليه القاموس الشعري عند الشاعر معبر النهاري هو البحث عن (القصيدة) وآفاقها وأبعادها وتشكلاتها انظر (مثلاً قوله): تجيء القصيدة ملتاعة يعانقها القلب رغم التعب [من قصيدة امبجيدة – ديوان أولئك) ص 16] وكذلك قوله: طافت عليها الروح سبع قصائد واستغفر الريحان نشوة نهدها [من قصيدة رمان – ديوان (بسملة) ص 43] وهنا يتضح أن الشاعر النهاري يؤكد شعرياً انتماءه للشعر والشعراء والمجالات الشعرية التي تشكل فضاء القاموس الشعري ودلالاته والتي تحددت في ثلاثة فضاءات بارزة وواضحة نقدياً وهي: فضاء المفردة بحقيقتها القصيدة/ الشعر وفضاء الدلالة والرمز والإحالة إلى الشعر. وأخيراً فضاء الأسماء والرموز الشعرية إن تراثياً أو معاصراً . وهذا ما ستحاول القراءة النقدية استكشاف نماذجها وتناولها تأويلاً وتحليلاً مركزين على الفضائين الأول والثالث. (4) ومما سبق تصل الدراسة إلى الفضاء الدلالي الخاص بالمفردة (القصيدة/ الشعر) وتجلياتها ونماذجها القولية/ الشعرية، التي تكررت في الديوانين نحو 42 مرة، وعبر هذا التكرار نجد أن كلمة (قصيدة) وكلمة (شعر) وتكراراتها تأتي في سياقات ومضامين متفاوتة فمثلاً في قصيدة بعنوان أحداق القصيدة [ديوان بسملة، ص ص 33-34] يأتي البحث عن (القصيدة) عبر بكائية سياسية عن اليمن الذي كان سعيداً، واليوم ترتمي (صنعاء) في فراش الفرس كقينة مستباحة!! * لغة نامت بأحداق القصيدة كوحيد ذاب في حضن (وحيدة) * وبها الألفاظ تغدو كرمة تبعث النشوة في الروح البليدة * أين (وادي الدور) أيان (الحدا) يا ذمار (الشعر) يا (وادي عبيدة) * أظلم الشعر فلا كاهنه سيغنينا ولن تحلو النشيدة * تنحني الهامات حولي ترتمي والمعاناة وميلاد القصيدة!! في هذه المقتبسات من القصيدة تتضح التحولات الدلالية والتماوجات الفكرية التي تحيط بالنص، وكيف يتخلق الشعر أو (القصيدة) من مجمل هذه المشاعر التي تسيطر على ذهن الشاعر!! ومثلاً آخر من خلال النص الموسوم ب [حكاية الزيتون من ديوان (بسملة) ص ص 81-84] تأتي (القصيدة) من خلال العلاقة الاجتماعية مع رفاق الأمس الذين تشاكلت علاقاتهم بين هجر ووصل ولقاء وفراق، فتبدو الحالة الوجدانية بين مشاعر اليأس والهم والثقة والتفاؤل: * دعني ستكسرني القصيدة مجبره قلقاً على باب الغواية محضره * باتت تساءل عن حكاية صمته وبثغره كل اللغات مبشره * ما باله الغرّيد يصمت فجأة هل شاخ جدوله؟! الربى مستنفره * هل يرحل الإبداع رغم أنوفنا صحف وربك ماتزال منشره * يا أيها المغتال نزفك ذائع هل أشعل السمار قلبك مبخره؟! وفي هذا المقتبس تتضح -كذلك- التحولات الدلالية للبحث عن القصيدة/ النموذج عبر ثنائية (الأنا والهُم)، (الذات والغير) في مسيرة اجتماعية/ أدبية/ شاعرية!! أما تجليات (القصيدة) - كمفردة متحولة/ متنامية/ متعددة المضامين والسياقات في ديوان (أولئك)، فنجدها أولاً في سياق التفاخر وامتلاك ناصية البيان والإبداع وبيان العلاقة الوطيدة مع الشعر.. يقول في نص «قميص المرسلات»: وحدي أسافر في مداه بلا مدى وأمد كف الروح أحتلب الظما وعلى شحوب الذكريات أخيط من شبق التمزق ما تفتح برعما وأصوغ فتنته بحرف قدَّهُ بحمى الغواية قد تعوذ واحتمى وأطرز الهالات أغزل هيكلاً ليقال من فلك التفرد قد نما لأضيف في لغة القصائد أحرفاً حار (الخليل) يقطفها وتلعثما وطوال الأبيات الأربع عشرة -في هذه القصيدة- تبدو هذه التفاخرية والتمجيد/ ذاتية عبر بوابة الشعر/ القصيدة. كما نجدها ثانية في سياق المدح والاعتزاز بالشعراء الذين يستنبتون القصائد ويتغنون بالإبداع، ويصنعون نبوة غرامية/ شعرية!! يقول في قصيدة بعنوان [نبي الغرام من ديوان (أولئك): جاؤوا يغنون/ في نيسان/ فاحتفلت تلك الربوع بهم/ فاسَّاكبوا شجناً القادمون وذي (جازان) ملهمة/ كوناً تشافى هوىً/ فاستنبتوا وطناً جاءت على صوتهم سبعون قافيةً / فأطعموها لظى وجدانهم فننا .......... لم يخلق الشعر إلا لون غربتهم/ فموسقوا السفر المجنون/ والمدنا إلى آخر النص الإبداعي وزناً وقافية وطريقة كتابية سطرية على نماذج النصوص الحرة والحداثية حيث عمد إلى توزيع المفردات والتراكيب على السطر إثراءً للدلالة وتنويعاً للأساليب الكتابية، واستثماراً للفراغات البصرية/ الكتابية. وهناك الكثير من السياقات والمضامين التي يمكن ملاحظة أيقوناتها التفاعلية والدلالية لتخصيب مفردة القصيدة ومفردة الشعر في تناميات جاذبة ومغرية بالتناول النقدي في كلا الديوانين !!