النجاح ليس حكراً على أحد، وليس له طريق محدد، فأحياناً يكون طريق النجاح وعراً شائكاً، وفي أخرى سهلاً ميسراً، كما أن الإحساس بطعم النجاح يعتمد على مدى رضا الأشخاص وقناعتهم بما حققوه، ولأن النجاح ليس بالأمر الثابت فالمحافظة على استمراره تعتبر تحدياً حقيقياً. عوامل كثيرة تسهم في المحافظة على استمرار النجاح أبرزها -برأيي- النجاح الأخلاقي، فمن يفشل على المستوى الأخلاقي وينحدر إلى براثن الرذيلة والاحتيال والخيانة لن يصمد طويلاً عند القمة، ولن يستمتع بنجاحه، وكما يقول شوقي: "وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا". جون مكافي مخترع برنامج مكافي المضاد للفيروسات من أبرز الأمثلة على إسهام السقوط الأخلاقي في الفشل بعد النجاح، إذ ركب مكافي موجة الثراء بشكل سريع وغير متوقع، ويعود الفضل في نجاح مكافي إلى مقالة قرأها عن انتشار أحد فيروسات الكمبيوتر، حيث أدرك أن لديه الإمكانات والإلمام التقني لاختراع برنامج حماية ضد الفيروسات، وبالفعل هذا ما حدث فاخترع بكل جدارة برنامجه الخاص وهو قابع في منزله. ومع بداية التسعينات واشتعال الثورة التقنية ازدادت المخاوف من الفيروسات، وزاد الطلب على برامج الحماية، فأسس شركة زادت حصته فيها عن عشرات الملايين من الدولارات، إلا أن الفوضى الأخلاقية التي سادت حياته جعلت المساهمين يجبرونه على الاستقالة، والغريب أنه لم يتعظ من تجربة فصله من إحدى الجامعات التي عمل بها بسبب ممارساته غير الأخلاقية. باع مكافي حصته في الشركة واتجه للعمل في اليوغا، ثم أسس مدرسة للطيران، واستثمر في العديد من الشركات فقد كان قناص فرص ماهر، وقرر أن ينتقل للعيش في بيليز بأميركا الوسطى، وهناك تعرف على أميركية تجري أبحاثاً على نباتات المنطقة لاستكشاف أنواع جديدة من الأدوية، فقرر مشاركتها وتمويل أبحاثها، وأسس شركة، وبنى مختبراً متكاملاً لها، ولكن لطباعه السيئة واستمراره بالعربدة والتعاطي، هدده أحد رجال العصابات، فتملكه الخوف، وقام بتعيين وتسليح حراسات أمنية خاصة، وتزويدهم بأشرس الكلاب، ولكن سكان المنطقة ضاقوا بهم ذرعاً، وقدموا العديد من الشكاوى دونما جدوى، وعندها قاموا بتسميم الكلاب. توالت بعدها الأحداث حتى داهمت الحكومة الشركة، وصادرت بعض الموجودات، وعلى إثر ذلك فضّت الباحثة الشراكة، وتوجّه مكافي إلى غواتيمالا، حيث تم اعتقاله بتهمة الدخول غير المشروع، وتقرر إعادته من حيث أتى، ولكنه تظاهر بإصابته بنوبة قلبية، حيث مكث في المستشفى إلى أن تمكن محاميه من إقناع السلطات بترحيله إلى موطنه الولاياتالمتحدة الأميركية عوضاً عن إعادته إلى بيليز. في الولاياتالمتحدة أعاد جون مكافي بناء شهرته، وصوّر مقطع فيديو مبتذل يسخر فيه من برنامج مكافي المضاد للفيروسات، فلاقى انتشاراً واسعاً بين الأميركيين، كما قدم عروضاً كمرشح لأحد الأحزاب في الانتخابات الرئاسية، ورغم فشلها إلا أنها كانت سبباً لظهوره في العديد من البرامج الحوارية البارزة، إضافة إلى عمله في العديد من الشركات المرموقة. ولكن جون وكعادته استمر في مسلسل الفساد الأخلاقي الذي أفسد نجاحاته نجاحاً تلو الآخر، حتى أفسد حياته برمتها، حيث عثر عليه مشنوقاً في زنزانته بأحد السجون الإسبانية. أي نجاح ذلك الذي يجعل الشخص خائفاً ومطارداً رغم امتلاكه للثروة ومقومات الحياة الكريمة، قد تبدو أحداث القصة وكأنها مقتبسة من فيلم سينمائي ولكنها أحداث واقعية، فالفساد بشتى أنواعه شوكة في خاصرة أي نجاح، ومعول هدم لأي تقدم.