العيد موسم الذكريات، في مساء أول أيام عيد الأضحى الذي طويناه مؤخرًا، كنت كما جرت العادة في تجمع الأصدقاء في المنفى الاختياري، بما يطلق عليه اصطلاحًا - الاستراحة - وبعد ليلة تحدثنا فيها عن كل شيء - تقريبا - كان أحد الجلساء بين حين وأخرى، يطلق العنان لجواله مذيعًا من خلاله بعض النغمات السودانية، مثيرًا بها سحبًا من ذكريات مر على بعضها أربعة عقود أو تزيد. ومع ساعات الصباح الأولى انفض السامر، وما زالت تلك الذكريات تصاحبني الأمر الذي جعلني أتمادى في البحث عن المزيد لاستثارتها، وهنا عمدت إلى البحث عبر اليوتيوب، وأنا أحاول أن أختار ما يتناسب مع اللحظة التي أنا فيها، وكنت كمن دخل بستانًا تنوعت أزهاره طيبًا وألوانًا، لا يكاد من حسن ما يرى، قادرا على الاختيار، وهنا تبادرت إلى ذهني أغنية « أنت شلته جيبه يا قطار» وهي تنتمي إلى ما يعرف بفترة الحقيبة، والحقيبة هذه مصطلح عليه شيء من الخلاف، ينسبه بعضهم إلى الحقائب التي كان العازفون يضعون فيها آلاتهم، وآخرون ينسبونها إلى حقيبة أحمد محمد صالح التي كان يضع بداخلها الأسطوانات لإذاعتها، ولا يزال ذهني يورد علي الاختيارات، فمر سريعا على «عائشة الفولاتية»، صاحبة الصوت الرخيم، ليتوقف التفكير مطولًا عند ثلاثي القمة ود الأمين «كما يسميه أهل السودان» ومحمد وردي وثالثهم عبدالكريم الكابلي، الثلاثي الأكثر شهرة وانتشارًا، وليس ببعيد منهم خوجلي عثمان، بن البادية والطيب عبدالله والريح والقائمة تطول، غير أن الاختيار ودون اختيار على الثائر أبوعركي البخيت، وتحديدًا على رائعته «عن حبيبتي أنا بحكي ليكم» التي تقترب روعتها عندي من معزوفة رقصة الأطلس للراشدي، ولست ممن يملك أدوات التقييم، لكن رابطًا ذهنيًا أوحى لي بذلك، وفي أثناء استماعي، تمر أمامي أحداث ما يعرف بانقلاب المرتزقة عام 1976م حيث كنت وقتها طفلًا، أمشي حافي القدمين، في طرقات ناحية «أمبدة» القريبة من أم درمان، غير مدرك لحالة الاستنفار التي تعيشها البلاد، ولا مكترث بجلبة المدرعات التي تجوب الأرجاء، كما عشت - ذهنيًا - بدايات التعليم في الكتاتيب عند شيوخي، ويطول حديث الذكريات حتى يصل إلى مطار جدة، وأنا طفل محمول على الأعناق، وقد عقدت أناملي على ورقة «عشر جنيهات» وكأني أتمسك بشيء من تلك الأرض الطيبة. منذ ذلك العهد وإلى يوم الناس هذا والسودان، شعبًا ووطنًا، وأدبًا وفنًا، أعتبره جزءا أصيلا مني، فلا يمكن أن أتجاوز الأديب الكبير الطيب صالح وروائعه، موسم الهجرة إلا الشمال وأخواتها، وكما لا يمكن أن تنسى الذاكرة وصفه البديع بحس الفكاهة السوادني الفطري لمدير المدرسة في القصة القصيرة الموسومة ب»عرس الزين». وعن السودان يطيب الكلام، ولعل أصدق ما يعبر عما في النفس لهذا البلد النفيس هو قول شاعره سيف الدين الدسوقي في قصيدته «عد بي إلى النيل» والناس في وطني شوق يهدهدهم كما يهز نسيم قامة القصب والجار يعشق للجيران من سبب وقد يحبهم جدًا بلا سبب الناس أروع ما فيهم بساطتهم لكن معدنهم أغلى من الذهب عد بي إلى النيل لا تسأل عن التعب قلبي يحن حنين الأينق النجب كنت ليلة عيد، وربما كان حملًا، فمن يدري.