ما زالت تمر في ذهني ذكريات أيامي الأخيرة في القاهرة، ومشهد الطلاب في أرجاء ساحة الجامعة مرتدين أثواب التخرج وملوحين بقبعاتهم أمام الكاميرات على ايقاع الموسيقى والأغاني العالية. أضواء فلاشات الكاميرات كانت في كل مكان هناك تخلد لحظات جميلة لن ينساها من كانوا حاضرين. وفي نهاية الإحتفال ذهب كل منا في طريقه وهو يفكر في المستقبل الذي ينتظره. عرفت وأنا اقضي هذه الأيام في القاهرة برفقة أصدقائي، بعد ثلاث سنوات ونصف السنة من التعب والسهر، أنني ساشتاق إلى كل شيء، إلى أروقة الجامعة والصفوف، والشوارع والأزقة والمقاهي وحتى الزحام، لكن يبقى هناك شخص لم يخطر في بالي آنذاك انني ساشتاق إليه... وهو أنا. منذ عودتي من القاهرة قبل سنة، واستقراري في بيروت، بحثت عن قواسم مشتركة بين البلدين كي استطيع من خلالها العيش والتأقلم. وعلى رغم أن البلدين لا يبعدان عن بعضهما بعضاً أكثر من ساعة في الطائرة، فإن أمزجة الناس وعاداتهم مختلفة. فما يعتبرونه في مصر مضحكاً يعتبرونه هنا سخيفاً، وما يعتبرونه هنا جميلاً يعتبرونه في مصر مزيفاً. إضافة إلى أن نظرة الناس إلى الحياة والقيم مختلفة بين البلدين، ما جعلني أراعي طباع الناس في بيروت كي لا أبدو غريبة أو حتى سطحية التفكير في بعض الأحيان. ومن المعروف أن لبنان بلد الطوائف والتعددية، إلا أنني لم أختلط بعدد كبير من تلك الطوائف، وتعرفت فقط الى مجتمع صغير كونته عائلتي خلال إقامتها هنا قبل أن التحق بها. وبما أنني لم أعد أذهب إلى الجامعة ولم أعثر على عمل، فكل من أعرفه في لبنان هو من معارف عائلتي. وبغض النظر عن مدى انفتاح هذا المجتمع الصغير وتفهمه، فكوني لا اعرف غيره، وتعاملاتي وعلاقاتي محصورة فيه، أحسست في حاجة طبيعية إلى التعرف الى أناس مختلفين ومجتمع آخر استطيع من خلاله التعبير والتعرف الى جوانب أخرى من شخصيتي، وهو الشيء الذي لم استطع فعله، ما أدى إلى اختلال في توازن حياتي. كنت اعتبر حياتي قبل انتقالي إلى بيروت متوازنة. كنت أجد المساحة الكافية لكي اتصرف بطبيعتي بما تحمله من سلبيات قبل الإيجابيات من دون انتقادات وتهكمات لاذعة، ما جعلني أعيش في سلام مع نفسي، وتناغم مع محيطي بكل انفتاح من دون أي حساسيات. كنت أبدأ صباحي هناك بالاستعداد للذهاب إلى الجامعة، وانتقي ملابسي من دون الاكتراث كثيراً لأناقتها، وأحياناً لتناسق ألوانها، واكتفي بارتداء الجينز وقميص فوقه، فالمهم أن تكون ملابسي مريحة وعملية من دون الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، أو التقيد بشكل معين، لثقتي بأن لا أحد سيدقق أو ينتقد. وعندما كنت أخرج مع أصدقائي، لم نكن نجد صعوبة في انتقاء الأماكن، لأن لا أحد منا يصر على الذهاب إلى مكان معين، أو يدقق في نوعية الأكل وجودته، فبإمكاننا الذهاب إلى المناطق الشعبية التي لا تعلق أهمية كبرى على الديكور والكماليات. وكان يمكننا حتى الاكتفاء فقط بالمشي على ضفة النيل وشوارع القاهرة لقضاء يوم جميل لا نشعر بأن شيئاً ينقصنا. وكان المهم أن نقضي أوقاتاً ممتعة مع بعضنا البعض. لكن الأمر يختلف في بيروت، نظراً لاختلاف الاهتمامات، فاختيار الأماكن الفاخرة والمطاعم التي تتميز بجودة الطعام وأناقة الأثاث تعتبر من"الأساسيات"ليستمتع الشخص بيومه أو ليلته، ناهيك بإحساسي الدائم بأنني يجب أن أتأنق وأظهر بمظهر معين مع الاعتناء بكل التفاصيل الصغيرة التي لم أكن أشعر بأنني كنت مقيدة بها. وبعد تخرجي، والانتقال من حياة الجامعة والبعد عن أناس لم يكونوا مختلفين عني كثيراً، إلى حياة أوسع، والاصطدام بطبائع وتصرفات لم أعتدها من قبل، لم تتوافر لي المساحة الكافية لأتصرف بطبيعتي، ولأحذف لا شعورياً جزءاً من شخصيتي عندما أتعامل مع الآخرين. رحت أتصنع أحياناً وأتصرف بطريقة ينتظرها مني الآخرون حتى أحسست بأنني أفقد بعضاً من ذاتي، ولم أعد كما عهدت نفسي سابقاً. شعور بالعزلة تملكني وأبعدني تدريجاً عن الناس. فمشاركتي في الأنشطة الاجتماعية محدودة بحضوري فيها كمتفرجة، من دون أن يكون لي دور فاعل. وبت اشعر بالرتابة والملل. ومع مرور الوقت، ازداد خوفي من أن أعتاد هذه الرتابة، وأن تصير جزءاً مني، وفي الوقت نفسه، ازداد شوقي إلى ما كنت عليه في القاهرة، وإلى كل شيء فيها، لأنني أشتاق إلى نفسي هناك.