فن إدارة المسافة في العلاقات الاجتماعية كمفهوم حديث في أدبيات علم الاجتماع التربوي هو علم ومهارة يدرس في الاتصال الإنساني والتفاعل الاجتماعي.. له أبحاثه ومقوماته العلمية، ومعروف أن العلاقات الاجتماعية هي أساس علم الاجتماع وهي عبارة عن "الروابط والآثار المتبادلة بين الأفراد والمجتمع وهي تنشأ من طبيعة اجتماعهم وتبادل مشاعرهم واحتكاكهم ببعضهم البعض، ومن تفاعلهم داخل البيئة المجتمعية ". وحتى تصل بك إلى بر الأمان وشاطئ السلام، فهي تشترط مجموعة من الأسس التربوية والمعايير الاجتماعية. تحكم بها إدارة علاقاتك الاجتماعية بوعي ومرونة وحكمة. والاقتراب الشديد من البشر - كما أكد علماء الاتصال الانساني - يولد توترات ومللاً. ومن هذا المنطلق وجد البعض ضرورة إدارة علاقاته الاجتماعية بطريقة دبلوماسية، وبلغة (الذكاء الاجتماعي) يضمن حسن التعامل وتنظيم إطار العلاقات مع الآخرين فلا ينكسر (زجاج) العلاقة الإنسانية بسبب سلوكيات مناهضة للقيم الأصيلة أو يتأثر الضابط الاجتماعي والرابط الأخلاقي لممارسات خارجة عن الضبط الديني والاجتماعي. هناك حكمة شهيرة تقول (لا تقترب إلى حّد إبصار العيوب.. ولا تبتعد إلى حّد نسيان المحاسن). والأكيد أن العلاقات الاجتماعية متغيرة ولا تثبت على نسق واحد، ومن هنا فهي تحتاج في بعض الأوقات إلى البعد قليلا لمراجعة كشف حساب الذات والتصرفات، فضلا عن استشعار أحوال الآخرين ومحاولة التخفيف عنهم سواء بالتغذية الايجابية الراجعة أو الابتعاد من أجل منحهم مسافة من التفكير بهدوء وعمق وبصيرة. وفي معظم الأحيان تحتاج إلى الاقتراب أكثر لتعميق العلاقات الاجتماعية والتغلب على الجفاف التعاملي والتصحر السلوكي الذي تمخض من هموم الحياة بسبب سرعة التغيرات الاجتماعية الثقافية. وأذكى البشر هو من يجيد لغة (إدارة المسافات الاجتماعية) ويعرف متى يقترب، ومتى يبتعد؟ ولذلك يؤكد رائد علم الاتصال الإنساني (إدوارد هول): "إن إدارة المسافة والمحافظة عليها مسألة مهمة لإبقاء الود والاحترام المتبادل في العلاقات بين الناس، وتفقد علاقتنا بالآخرين عندما نخطئ في احتساب تلك المسافة". وهناك قصة رمزية ذكرها الفيلسوف الألماني شوبنهاور تقول (إن مجموعة من القنافذ اقتربت من بعضها في إحدى الليالي الشتوية القارسة بحثا عن طاقة للدفء وهربا من الجو الجليدي شديد البرودة لكنها لاحظت أنها كلما اقتربت من بعضها أكثر شعرت بوخز الأشواك التي تحيط بأجسادها مما يسبب لها المزيد من الألم. وإنها كلما ابتعدت عن بعضها البعض شعرت بالبرودة وتجّمد أطرفها، وبحاجتها للدفء في أحضان أصدقائها. استمروا على هذا الوضع بين ألم الاقتراب، وهجير الانفصال إلى أن توصلوا إلى المسافة المناسبة التي تقيهم من برودة الطقس الجليدي وتضمن لهم - في الوقت ذاته - أقل درجة من ألم وخز أشواك الأقارب. وحتى يبقى الحبيب في عينيك حبيبا لا تقترب منه كثيرا. والبعض أجمل من بعيد فحافظ على (المسافة الاجتماعية) بينك وبينهم. لقد تعلمنا من طفولتنا في المدارس أن نترك مسافة بين الكلمة والكلمة لكي يفهم الآخرون ما نكتب، وكذلك علمتنا مدرسة المرور أن نترك مسافة مرورية بيننا وبين الآخرين في الميادين والطرقات حتى لا نصطدم بهم. صحيح أن لكل منا عيوبه وأشواكه الخاصة التي ربما لا تظهر لنا ولا نشعر بالآم وخزاتها إلا عندما تكون المسافة الاجتماعية غير مناسبة، والصحيح أيضاً أن (ضبط المسافات) من أكبر سنن هذا الكون الفسيح وهذا كله من تدبير الخالق العظيم، وأن سير الكواكب الدقيق مرتبط باحترام المسافات الفلكية، فلو اقتربت الشمس منا قليلا لاحترقت الأرض ولو ابتعدت قليلا لتجمد كل شيء من حولنا. وأخيراً: لا تقترب كثيراً فيملك الناس، ولا تبتعد كثيراً فينسوك أو يجهلوك. * باحث متخصص خالد الدوس