يُعد الفساد ظاهرة قديمة وطبيعة إنسانية ترتبط بالنفس البشرية وتلازمها على مدى التاريخ وفي كافة الحضارات، ويهدف المفسدون من خلاله لتحقيق أهداف تخدم مصالحهم دون الالتفات للمصلحة العامة، لذا كان التصدي للفساد هو خير علاج له، والمتتبع لتاريخنا الإسلامي العريق يجد أن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم كان أول من وقف في وجه الفساد، ويؤيد ذلك قصة جمع الزكاة المشهورة، فقد ورد في السنة النبوية الشريفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رَجُلًا علَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ قالَ: "هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ"، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أبِيكَ وأُمِّكَ حتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ خَطَبَنَا"، فَحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عليه ثُمَّ قالَ: "أمَّا بَعْدُ فإنِّي أسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنكُم علَى العَمَلِ ممَّا ولَّانِي اللَّهُ فَيَأْتي فيَقولُ: هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أفلا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ حتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، واللَّهِ لا يَأْخُذُ أحَدٌ مِنكُم شيئًا بغيرِ حَقِّهِ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أحَدًا مِنكُم لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطِهِ، يقولُ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ بَصْرَ عَيْنِي وسَمْعَ أُذُنِي"، ومنذ ذلك التاريخ والعمل جار على مكافحة الفساد بكافة أنواعه. شفافية وصدق وفي تاريخنا الحديث المعاصر ومنذ بدايات التأسيس لبلادنا الغالية فقد كان العمل يسير على هذا النهج في التصدي للفساد والفاسدين، وكان أول جهاز رسمي يتولى هذه المهمة هو ديوان المراقبة العامة الذي أنشئ في عام 1391ه بموجب مرسوم ملكي، وقد حدد النظام اختصاصات الديوان في الرقابة المالية اللاحقة ورقابة الالتزام بالأنظمة المرعية، ومنذ ذلك التاريخ وهذا الديوان يقوم بعمله على أكمل وجه، وفي 30 أغسطس 2019م صدر أمر ملكي بتحويل اسم ديوان المراقبة العامة إلى الديوان العام للمحاسبة، وتم تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في 13 / 4 / 1432ه، وبعد فترة تم تعديل مسماها إلى هيئة الرقابة ومكافحة الفساد بهدف حماية المال العام، ومحاربة الفساد، والقضاء عليه، وتطهير المجتمع من آثاره الخطيرة، وتبعاته الوخيمة على الدولة في مؤسساتها، وأفرادها، ومستقبل أجيالها، وفي 12 ديسمبر 2019 صدر أمر ملكي بضم هيئة الرقابة والتحقيق والمباحث الإدارية إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وتعمل الهيئة على حماية النزاهة ومكافحة الفساد في الأجهزة المشمولة باختصاصاتها وهي الجهات العامة في الدولة، والشركات التي تمتلك فيها الدولة نسبة لا تقل عن 25 % وذلك لخلق بيئة عمل في تلك الأجهزة تتسم بالنزاهة، والشفافية، والصدق، والعدالة، والمساواة. الفساد نوعان ويمكن تعريف الفساد على أنّه أعمال غير نزيهة يقوم بها الأشخاص الذين يشغلون مناصب في السلطة، مثل المديرين، والمسؤولين الحكوميين وغيرهم، وذلك لتحقيق مكاسب خاصة، ومن الأمثلة على ظواهر الفساد إعطاء وقبول الرشاوى والهدايا غير الملائمة، والغش أو الخداع، وتحويل الأموال، والاحتيال وغيرها، وأنواع الفساد تضم أفعال الفساد قائمة كبيرة من الأعمال غير الأخلاقية منها الابتزاز، والرشوة، والمحسوبية، والاختلاس وما إلى ذلك، لكن بشكل عام يوجد شكلان رئيسيان للفساد وهما الفساد الثانوي أو الصغير، والذي تكون تأثيراته صغيرة وغير واضحة إجمالاً على البلاد، بحيث تكون عن كميات قليلة من الأموال، أو تتعلق بالأشخاص الذين لا يمتلكون تأثيراً قوياً في البلاد، لكن يمكن أن تتفاقم آثاره لتتسبب في مشاكل كبيرة، ومن أشكاله دفع الأموال غير المستحقة للحصول على مقاعد دراسية، أو للحصول على ترقيات مهنية سريعة، أو للانتقال إلى قاضٍ آخر لعكس قرار المحكمة وما إلى ذلك، أما النوع الثاني من الفساد فهو الفساد الضخم أو الكبير والذي يؤثر تأثيراً سلبياً مباشراً وطويل الأمد على البلاد، حيث ينطوي على مبالغ مالية هائلة، ويقوم به مسؤولون ذوو مكانة عالية في البلاد، ومن الأمثلة عليه اختلاس الأموال التي كان الهدف منها إنشاء المشاريع التي تخدم عامة الناس، أو زيادة الأموال المخصصة لصانعي القانون والموظفين في الدولة لتشريع القوانين لمصلحة شخص معين، أو مجموعة من الأشخاص، ومنح العطاءات والوظائف لأناس غير مؤهلين، واستقبال المشاريع السيئة أو غير المكلفة، وما إلى ذلك. أطماع شخصية ويمكن تلخيص بعض أهم أسباب الفساد في المجتمعات وعلى رأسها الأطماع الشخصية، حيث يمتلك البشر دافعاً فطرياً للتملك، فيرجع سبب الفساد أحياناً إلى رغبة المسؤولين المطلقة في المال والسلطة، دون وضع اعتبارات للحدود الأخلاقية الدراجة، وكذلك إلى انخفاض الحس الوطني والأخلاقي، وذلك إمّا بسبب نقص مستوى التعليم، أو تجربة التعليم السلبية التي مر خلالها المسؤول، ومن الأسباب أيضاً انخفاض الوعي وعدم وجود الشجاعة بين بقية الناس لمواجهة الفساد والفاسدين، فهم يغضون البصر، أو يصمتون عنه، مما يشجع الفاسدين للاستمرار بأعمالهم بشكل أكبر، ومن الأسباب أيضاً وجود البيئات الثقافية التي تشجع الفساد وتتغاضى عنه، حيث يمكن أن يعتبر التهرب من المسؤوليات والقدرة على تحقيق مكاسب شخصية بطرق غير شرعية أمراً يدعو للإعجاب في بعض البيئات، ولعل آخر تلك الأسباب هو عدم سن القوانين واللوائح الرادعة، حيث يؤدي الإهمال القانوني في المناطق المعرضة للفساد إلى انتشار الفاسدين بشكل كبير، وبطء العمليات القضائية في بعض البلدان، وعرقلة سير العدالة، وقلة وجود معايير أخلاقية في الترقيات، وذلك عندما يتم ترقية بعض الأشخاص بطرق غير نزيهة. إبراء ذمة ويعتبر حساب إبراء الذمة الذي تم إنشاؤه بأمر سامٍ عام 1426ه ويتولى بنك التنمية الاجتماعية إدارته والإشراف عليه فرصة لمن أراد تبرئة ذمته، ويستهدف البرنامج إبراء ذمة موظفي الدولة الحاصل منهم تقصير في الدوام أو في أوقات العمل، أو في الإنتدابات، أو العمل خارج الدوام، وغير ذلك، أو أي شخص يريد إبراء ذمته تجاه المال العام عن أموال أخذها بغير وجه حق، والإيداع في هذا الحساب يتم التعامل معه بمنتهى السرية، حيث تم فتح حساب خيري لدى مصرف الراجحي لإبراء ذمم المقصرين تجاه المال العام؛ أما الأموال العينية مثل الأراضي أو العقارات فتنقل ملكيتها باسم بنك التنمية الاجتماعية، وهذه الأموال التي يتم إيداعها في هذا الحساب يتم صرفها بالكامل على برنامج القروض الاجتماعية لذوي الدخل المحدود - زواج، أسرة، ترميم -، ويبلغ إجمالي ما تم إيداعه في الحساب منذ تأسيسه في عام 2006م وحتى نهاية شهر أكتوبر 2017م (340.251.849) ريالا وبعدد إيداعات (50.949) عملية إيداع، وأكبر عملية إيداع منفردة بالحساب منذ افتتاحه بلغت 20 مليون ريال - 5.3 مليون دولار -. تطهير المجتمع وتأسست هيئة الرقابة ومكافحة الفساد - الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد سابقاً - في 13 / 4 / 1432ه، بهدف حماية المال العام، ومحاربة الفساد، والقضاء عليه، وتطهير المجتمع من آثاره الخطيرة، وتبعاته الوخيمة على الدولة في مؤسساتها، وأفرادها، ومستقبل أجيالها، إذ تعمل الهيئة على حماية النزاهة ومكافحة الفساد في الأجهزة المشمولة باختصاصاتها وهي الجهات العامة في الدولة، والشركات التي تمتلك فيها الدولة نسبة لا تقل عن 25 %؛ وذلك لخلق بيئة عمل في تلك الأجهزة تتسم بالنزاهة، والشفافية، والصدق، والعدالة، والمساواة، وحققت الهيئة منذ تأسيسها وخصوصاً بعد صدور أمر ملكي بضم هيئة الرقابة والتحقيق والمباحث الإدارية إلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد العديد الإنجازات التي استطاعت من خلالها كشف عدد من قضايا الفساد وساهمت في استرداد ما تم الاستيلاء عليه من خزينة الدولة بدون وجه حق، ولعل أكبر إنجاز للهيئة هو ما أنجزته اللجنة العُليا لقضايا الفساد العام المشكلة بالأمر الملكي رقم (أ / 38) بتاريخ 15/ 2/ 1439ه، حيث رفعت اللجنة إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - التقرير المقدم من صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس اللجنة العُليا لقضايا الفساد العام المتضمن أن اللجنة أنهت أعمالها حيث تم استدعاء 381 شخصاً، بعضهم للإدلاء بشهاداتهم، وجرى استكمال دراسة كافة ملفات المتهمين ومواجهتهم بما نسب إليهم، وتمت معالجة وضعهم تحت إشراف النيابة العامة، وقد تم إخلاء سبيل من لم تثبت عليهم تهمة الفساد، وإجراء التسوية مع 87 شخصاً بعد إقرارهم بما نسب إليهم وقبولهم للتسوية، وتم إحالة 56 شخصاً إلى النيابة العامة لاستكمال إجراءات التحقيق معهم وفقاً للنظام، حيث رفض النائب العام التسوية معهم لوجود قضايا جنائية أخرى عليهم، وبلغ عدد من لم يقبل التسوية وتهمة الفساد ثابتة بحقه ثمانية أشخاص فقط وأُحيلوا كذلك إلى النيابة العامة لمعاملتهم وفق المقتضى النظامي، وقد نتج عن ذلك استعادة أموال للخزينة العامة للدولة تجاوزت في مجموعها 400 مليار ريال متمثلة في عدة أصول من عقارات وشركات وأوراق مالية ونقد وغير ذلك. ال58 عالمياً وأنجزت اللجنة العُليا لقضايا الفساد العام المهام المنوطة بها وفق الأمر الملكي وحققت الغاية المرجوة من تشكيلها، وقد وجه المقام الكريم بالموافقة على ذلك، وشكر - حفظه الله - سمو رئيس اللجنة وأعضاءها وفرق العمل المنبثقة عنها على ما بذلوه من جهد وحرص، مؤكداً - رعاه الله - استمرار الدولة على نهجها في حماية النزاهة ومكافحة الفساد والقضاء عليه، وردع كل من تسول له نفسه العبث بالمال العام والتعدي عليه واستباحة حرمته، وأن على الأجهزة الضبطية والرقابية تعزيز دورها في ممارسة اختصاصاتها بما يضمن الفاعلية وحماية المال العام والمحافظة عليه، وبفضل تلك الجهود الرامية إلى مكافحة الفساد بكافة أشكاله فقد جاءت بلادنا في المرتبة ال58 عالمياً من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد، بحسب منظمة الشفافية الدولية لعام 2018م، والمرتبة ال11 بين دول مجموعة العشرين الاقتصادية. «نزاهة» وقفت بالمرصاد لكل الفاسدين دون استثناء ديوان المراقبة العامة أول جهاز حكومي تصدى للفساد عملت الدولة على الحفاظ على مكتسباتها منذ القِدم المملكة سعت إلى تطهير بيئات العمل من الفاسدين