شكلت معركة استعادة مدينة الرياض في الخامس من شوال عام 1319ه والتي قادها الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- حدثاً مفصلياً وحاسماً في التاريخ الحديث لمنطقة شبه الجزيرة العربية، سيما وأنها أُسست على نحو ناجز لانطلاقة كيانية قيام المملكة العربية السعودية الحديثة. ولم يكن قيام هذه الدولة بدون تقييم استراتيجي قاده رجل أُمة ودولة استثنائي المناقب والمزايا والصفات عزّ نظيره من الرجال في التاريخ المعاصر، وامتد هذا العزم والتقييم طيلة عقود من المعارك والانتصارات المتوجة بإرادة سياسية عنوانها "التوحيد والضم" بالمعنى السياسي والجغرافي والاجتماعي فقد كان طموحه الأسنى أن يصنع دولة بموازاة بناء أمة وتوحيدها، أن يشيد مملكة بموازاة فضيلة روحية إسلامية عربية إنسانية، تستطيع أن تكرس حضورها الفاعل القوي في المحيط العربي والإقليمي والإسلامي والدولي، وقد كان له ولها ما أراد، والواقع يشهد اليوم إلى المكانة التي أصبحت تتبوؤها المملكة في كل المحافل وعلى جميع الأصعدة، بعد أكثر من قرن على معركة الاستعادة وما تلاها من انتصارات على طريق التوحيد والبناء. ولأن عبدالعزيز الملك المؤسس كان بحق أمة في رجل فقد استطاع أن يتخطى الصعاب كلها وهو شبه وحيد وأعزل إلا من ثلة من الرجال الذين لم يتجاوزوا ال63 مقاتلاً، أطلق عبدالعزيز مع هؤلاء الخطوة الأولى نحو تدشين مشروع أمة وبناء مملكة، وقد يكون حينها الإنجاز يبدو متواضعاً، لكن بالنظر إلى عبقرية الرجل واستنارته السياسية فقد كان يبدو وكأنه يرى أن استعادة الرياض ترسم له المستقبل بوضوح، ولذلك لم تتواضع أحلامه وتقتصر عند هذا الهدف، ولم تفتر همته طمعاً للراحة في واحة الإمارة الصغيرة لأنه كان يشعر أنه منذور ليكون الحامل التاريخي لمشروع سياسي كبير يصمد في وجه التاريخ والمستقبل وأكثر من ذلك كيان دولة قوية تساهم بشكل مؤكد في صناعة التاريخ. وفي آخر رجب من سنة 1319ه وبينما كان الملك عبدالعزيز يتنقل بين حرض ويبرين، حضر إليه مبعوث من والده الإمام عبدالرحمن والشيخ مبارك الصباح يحمل له رسالة تتضمن طلب الكف عن شن المعارك والعودة إلى الكويت حيث كانت تقيم أسرته مع والده، فاجتمع برجاله وأطلعهم على رسالة والده ثم خيرهم بين العودة أو البقاء معه لإتمام الأهداف التي جاؤوا من أجل تحقيقها، فاختاروا جميعاً صحبته وعاهدوه على ذلك. كان الحدث الذي أنجزه عبدالعزيز في معركته تلك بالنسبة للكثيرين في المحيط الإقليمي وبالنسبة لبعض القوى العالمية آنذاك مجرد حدث هامشي وغير ذي أهمية، لكنه بالنسبة لعبدالعزيز الواثق بقدراته والمخلص لطموحه كان صناعة حقيقية للتاريخ حاضراً ومستقبلاً، ولأن التاريخ لا تصنعه حوادث هامشية، فقد انتصرت إرادته فوق كل العوائق والصعوبات التي رافقت مسيرة بناء مملكته، تجاوز كل الظنون المحبطة من حوله وبقي مخلصاً لأهدافه الكبرى، وترك الكثيرين يتخبطون في أوهامهم وطمأنينتهم الكاذبة عندما اعتقدوا أن الفشل والإخفاق سوف ينكسان مشروعه وأحلامه، ولكنه لم يكن رجلًا حالماً فقط، بل حالم وواقعي، ولولا إرادته الذكية بين ثنائية الحلم والواقع، لتوقف الفعل التاريخي العظيم عند حدود القناعة بإمارة صغيرة في بحر شبه الجزيرة العربية. من منظور العلم العسكري الكلاسيكي فإن الحركة التي قام بها عبدالعزيز مع مجموعة قليلة من الرجال يمكن أن تُعد قراراً بالانتحار أو أشبه بالمغامرة غير المحسوبة، لكنها بالنسبة إليه كانت أشبه ما تكون بمعركة استعادة الإرث التاريخي للدولة السعودية الأولى والدولة السعودية الثانية، لكن جرح الكرامة في هذه المرة لم يقتصر على استعادة ملك فقط، بل مجاله تدشين وبناء أمة جديدة وحديثة في نطاق دولة إقليمية كبيرة وفاعلة ونشطة في محيطها الخاص والعام. دولة بمواصفات استثنائية وحاضنة للقيم الروحية الدينية والإسلامية، ممثلة لأقدس مقدسات الإسلام، وجميع المؤمنين بهذا الدين. عند النظر في المسار الذي تتخذه المملكة عبر عقود طويلة قد تحدد بالفعل منذ عهد الملك المؤسس، واستمر في المدى التاريخي لتطوير الدولة، ويمكن في هذا الخصوص الإشارة إلى بُعدين رئيسيين، البعد الأول أنها دولة عربية إسلامية يحدد الإسلام قواعدها ومنطلقاتها مثلما أنه يُؤطر اهتماماتها العامة انطلاقاً من مسؤولياتها التاريخية والروحية والدينية. البعد الثاني أنها دولة تاريخية وليست حديثة النشأة فقد تجاوز عمرها في مراحلها الثلاث أزيد من قرنين ونصف القرن، فهي دولة ذات تقاليد تاريخية وجودية راسخة، وما تزال هذه التقاليد التي أرسى أسسها الملك عبدالعزيز مرعية في سياساتها وأحوالها العامة وهي تقاليد قوية إلى حد كبير، على أنه قد تتطور هذه التقاليد نحو قيم تحديثية وعصرانية، لكنه تطور يبقى محافظاً على أصالة الجذور الإسلامية، فالمملكة لاتكون إلا عربية وإسلامية في وقت واحد وبقدر واحد بالمطلق من المفهوم القومي للدولة وتاريخها وجغرافيتها، وكذلك المطلق من العقيدة الإسلامية، وهذا يكون بحكم التاريخ والجغرافيا وبالجذور الممتدة أربعة عشر قرناً، ولذا فلكي نفهم مشروع تدشين المملكة وقيامها وانتظام مسيرتها فلا بد من التأكيد دوماً على هاتين الحقيقتين السابقتين، أي عروبتها وإسلاميتها، واعتبارها صيغة واحدة لمجتمع واحد ولدولة واحدة، فالعروبة والإسلام هما وضع دائم ومستمر في حياتها. وعند استقراء تاريخ مسيرة الملك عبدالعزيز منذ حركة الاستعادة الأولى ومروراً بمسار معاركه التوحيدية وانتهاء بإعلان تأسيس المملكة، سوف نلاحظ أن هذين العنصرين الجوهريين كانا دائمًا يرسمان خطوط مشروعه السياسي والاجتماعي ويحددان هوية مملكته ولا يزالان كذلك. والناظر في ميكانزمات مسار المملكة طوال عقود، يلاحظ أنه بالنسبة لجوهر الثوابت الذي حدد هوية الدولة، وتعد مرجعيات ثابتة، الا أنها تسعى لأن تكون هي ومجتمعها متصالحة مع العصر والتقدم. واليوم نرى أن رؤيتها المعاصرة لنفسها تتحقق بخطى متصاعدة من خلال رؤية 2030، هذه الرؤية الإستراتيجية الطموحة، التي هي أشبه ما تكون مفتتحاً جديداً وتدشيناً غير مسبوق في إطار عصرنة الدولة في كافة المجالات، لكنها عصرنة غير منفصلة عن تقاليد الدولة الراسخة، غير بعيدة عن تاريخها السياسي والاجتماعي والديني، لكن توافقاً مع فعل الضرورة الحضارية والعلمية بهدف مواكبة التغيرات الحاصلة على نطاق عالمي، وهذه الرؤية مبنية على معادلة دولة حديثة ومجتمع حديث لكن وفق قيم وعقيدة ثابته وراسخة، لاتكون عائقاً أمام التقدم والعصرنة والحداثة والعلم والتكنولوجيا. إن الرمزية الكبرى التي حملتها معركة استعادة الرياض في الخامس من شوال 1319 ه على يد الملك المؤسس -طيب الله ثراه- كانت ولازالت تمثل اللبنة الأولى في تأسيس المملكة العربية السعودية. فقد أنجز عبدالعزيز تأسيس دولة حديثة كانت المنطقة في أمسّ الحاجة إليها، إذ استطاع أن يوحد البلاد وأن ينشر الأمن والاستقرار في ربوع منطقة شاسعه مترامية الأطراف، وبالرغم من معاركه الطويلة مع الخصوم والأعداء، إلا أنه بفضل حكمته المميزة وقوة شخصيته وإنسانيته، تجاوز كل الأحقاد والضغائن التي رافقت حروب الاستعادة والتوحيد فقد استطاع أن يحول خصومه إلى أصدقاء مخلصين وعاملين له، وهذه صفات رجل يريد أن يبني أُمة ويوحد مجتمعاً ويؤلف جغرافيا حاضنة للجميع، وليس رجلاً يتوقف عند نشوة انتصاره على هؤلاء الخصوم ويُبقي على حالة العداء التي أدرك بلا شك أنها تهدد مشروعه السياسي كله ولا تتوافق مع شيمه وطبائعه النبيلة. وكافح الملك المؤسس عبدالعزيز مدّة ثلاثين سنة في معركته الكبرى معركة توحيد المملكة بعد معاناة كبيرة وجهود عظيمة حيث بدأ بضم منطقة تلو الأخرى إلى أن تمكن من إقامة الدولة السعودية وثانياً إعلان توحيد المملكة العربية السعودية. إذا كانت الحركة التاريخية المفصلية التي سطرها الملك عبدالعزيز والمتمثلة بمعركة استعادة الرياض تُشكل حدثاً مفصلياً في تدشين وبناء المملكة العربية السعودية كما هي اليوم، فإن النهج الذي اختطه بعبقريته السياسية والقيادية وحنكته الاستثنائية قد رسم مسار صعود دولة حديثة فرضت نفسها في معادلات الوجود العربي والإقليمي والدولي، وأرسى ثوابت راسخة في حضور المملكة المؤثر في السياسة الدولية، مثلما أطلق مسيرة تقدم وازدهار اجتماعي واقتصادي في الدولة لا تزال قائمة بوتيرة حثيثة. على أساس إنجاز رؤية عصرية متقدمة للدولة والمجتمع والإنسان السعودي. إن الإرث الممتد من النجاحات الباهرة التي حققها الملك عبدالعزيز ولسياسته الناجعة التي اختطها طوال عقود من عمر الدولة، هو اليوم يشكل خارطة طريق للمستقبل من لدن القيادة الحكيمة المتمثلة بالملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وإذا كانت استراتيجيات هذا الإرث التي رسخها الملك عبدالعزيز قد أنجزت الدولة والمجتمع على نحو غير مسبوق، فإن حكمة الحاضر المتمثلة بالقيادة الحالية للمملكة وهي تستلهم عبقرية الملك رجل المرحلة التدشينية، فإنها تسعى إلى بناء استراتيجية خلاقة تجسد واقع دولة عصرية تجمع بين التاريخ والمستقبل، وبين الأصالة والمعاصرة.