عندما يصدرُ عن «مرجعٍ» كلامٌ نابٍ، فذلك يعني طلاقاً قد وقعَ بينه وبين رزانةِ التّفكير، ودقّةِ النّباهة، أي قاعدةِ الإتّزانِ العقليّ اللّائق. ومردُّهُ إلى انعدامِ المواصفاتِ الخُلقيّة التي تفرضُ على اللّسانِ قواعدَ العفّةِ، واحترامَ كرامةِ الإنسانِ، وتَجَنُّبَ دائرةِ الإِسفاف. وما رَشقُ النّاسِ بالتّهَمِ جِزافاً، سوى الجَهلِ المُطبَقِ بمقياسِ المنطقِ القائمِ على الحجّة، ما يقودُ إلى السّؤال: هل يمكنُ أن يَعصى هذا النّموذجُ على غربالِ الإِتلاف؟ إنّ حكايةَ اللّبنانيّين مع المملكةِ العربيّةِ السعوديّة، متجذِّرةٌ في لاوعيِهم، منذ أَمَدٍ بعيد، لذلك، هي ليسَت ظاهرةً حديثةً سبَّبَتها الأحداثُ في الرّبعِ الأخيرِ من القرنِ الماضي، وما تلاها. فموجاتُ الانتقالِ إلى المملكةِ، بقَدرِ ما قدَّمَت لأهلِنا المِضيافين، هناك، رأسَمالٍ كبيرَ الحجمِ في المجالاتِ العمرانيّةِ والاقتصاديّةِ وسواها، بِقَدرِ ما حقّقَت للوطنِ مكاسبَ شكّلَت، ولمّا تزل، العَصَبَ الأساسيَّ لجُرعةٍ اقتصاديّةٍ كانَ جسمُنا المُتَرَهِّلُ بحاجةٍ ماسّةٍ لها، دائماً. المملكةُ في لبنان، نربِطُها بقضيّةِ التزامٍ بِقِيَمٍ جوهريّةٍ تنزَّلَت في زمنِنا، وجدانيّاً، وعروبيّاً، وانتساباً أخلاقيّاً. إنّ أنشطةَ اللبنانيّين في أرضِ الحرمَينِ الشّريفين، وعلى مختلفِ مشاربِهم، وانتماءاتِهم المذهبيّة، لم تكن، يوماً مُلتَبِسَةَ القَصدِ، محفوفةً بالرَّيبَة، بل كانت مأنوسةَ الأهدافِ، شفّافةَ المَرمى، رصيدُها التّفاني في خدمةِ المِضيافينَ من أهلِ المحبّةِ والنّقاء، الذين لم يبادروا إلّا إلى الاستقبالِ بلَهفة، والاحتضانِ باندفاع، والمساعدةِ بلا تَراخٍ. وقد نشأ رابِطٌ وجدانيٌّ بين السّعوديّين واللبنانيّين، تخطّى حدَّ المهنيّةِ، والصّداقةِ، إلى مستوى الأخوّةِ اللّصيقة، وهي أخوَّةٌ لا يمكنُ مصادرتُها تحت أيِّ شكل. كذلك، فالإنتماءُ العربيُّ مَدمَكَتهُ نظرةٌ واحدةُ الاتّجاه، وقناعةٌ غيرُ مُصَدَّعةٍ بقضايا مشتركةٍ تجمعُ ولا تُفَرِّق. أمّا الثّقةُ المقدَّسةُ فهي السلطةُ العُليا التي أدارَت شؤونَ نِطاقِ الأعمالِ، في حدودِ الإاحترامِ الكاملِ لأنظمةِ المملكةِ ولكرامةِ أهلِها. إنّ عائداتِ العملِ في المملكة، صارَت القسمَ الأكبرَ من تركيبةٍ وطنيّةٍ تشكّلُ جزءاً رئيساً من أمنِ الناسِ الإيراديّ، ليطمئنّوا إلى أنّهم لن يجوعوا، ولن يضطرّوا إلى مَدِّ اليَدِ، بإذلال، لتَلَقّي ما يقيتُهم. من هنا، فتوقُّفُ هذه التّحويلاتِ، أو تَرحيلُ أصحابِها، لا بدَّ من أن يزرعَ الخوفَ، والحَذَرَ، والخَطَر ما يؤدّي حتماً إلى إقامةِ حَفلِ تأبينٍ للعيشِ الرّاغِدِ، وتسليمِ صَكِّ السلامةِ إلى العَدَم. إنّ اغتيالَ تَعَبِ اللبنانيّين خلالَ عُقود ليسَ شَطَطاً أو خطأً أو زلَّةَ كلام إنّما هو جريمةٌ سافرةٌ، مهما عملَ مرتكِبُها ومَنْ خلفَه على تَجميلِ نصِّ الاعتذارِ بالزّخرفةِ والتّزيينِ الباهِت فالباطِنُ يبقى واضحاً، وهو قَطعُ شعرةِ معاويةَ مع دُوَلِ الخليجِ الشّقيقة، وفي مقدِّمِها المملكةُ العربيّةُ السعوديّة، لتَركيعِ لبنانَ بالفقرِ، والجوعِ، والإفلاسِ، وتفريغِهِ من القدرةِ الشبابيّة صوبَ المَهاجر، وذلك لأَخذِهِ مَسحوقاً وبقوّةِ السّلاح وبدونِ أيِّ بَدائلَ أو حِراكٍ مُناهِض إلى محورِ إيران استكمالاً للتوسّعِ الفارسيِّ، خصوصاً في ما يُسَمّى دُوَلُ الطَّوق، العراق وسوريا وغزّة ولبنان. وما الخطأُ الذي وصَّفوهُ بأنّه غيرُ مقصود كانَ مُستَحضَراً من ضمنِ مؤامرةٍ أصبحَت جليَّةَ المَعالِم، أتاهُ مَنْ أتاهُ بكلِّ قَصدٍ متماشِياً مع الهدفِ الاستراتيجيِّ المَرسومِ وراءَ الحدود، والمُنَفَّذِ بأدواتٍ بلديّةٍ أَجندتُها ممسوخة. ليتَ الذين يشطّونَ عن ترَّهاتِهم، سالِكينَ دربَ الشّيطان، ليبدوَ مشهدُ الوطنِ معهم مهَشَّمَ الظّلال، باهِتَ القيمة، أن يقذفَ اللهُ في صدورِهم نوراً يهديهم إلى الصّالحاتِ ليعودوا إلى سلوكِ الرّشدِ ويخلعوا عن ذواتِهم تلكَ الطّينةَ غيرَ اللبنانيّة. ويا إخوتَنا في المملكةِ العزيزة، وأنتم المعَروفونَ بِمصافِ السَّخاءِ، والكَرَمِ، والضّيافةِ، وبِمُثُلِ الفروسيّةِ، والخَيرِ والشَّرَف، نحنُ نثقُ بكم، لأننا نثقُ بالشّمس فهي تَعودُ باستمرار. لقد تكاثَفَت فيكم المروءةُ فرجَحَت في كفَّةِ معاملتِكم إيّانا، لا سيّما في زمنِ الصّدأ الذي أصابَ بلادَنا وخلالَ الأوقاتِ العِجافِ التي نقلَت موطنَنا إلى عصرِ الغروبِ والغربة. إنّ محبَّتَنا للمملكةِ غيرُ قابلةٍ للقسمة، ووفاءَنا لأَهلنا في هذا القطرِ الحبيبِ يرقى على كلِّ تزييفٍ وكلٍّ تَضييع. فيا إخوتَنا، استمِرّوا في تحفيزِنا لنرفضَ الواقعَ المَقيتَ في ظلِّ السكّينِ المُلامِسِ لرقابِنا، وابقوا لنا الدّعمَ الذي يقينا الانكسار، ونحنُ مؤمنونَ بأنّ إِسفافَ الموبوئين مهما تمادى لا يستطيعُ بأيِّ شكلٍ أن ينالَ من تَسامي الصّالِحين وأنتم واللهِ الصّالِحون.