مع دخول سياسة المصرفية المفتوحة حيز التنفيذ في المملكة العام المقبل، قد تفقد بعض البنوك الحالية سيطرتها القوية على بيانات العملاء واحتكارها شبه الكامل لخدمات الدفع، وبالتالي فإن البيئة الجديدة تفرض على هذه البنوك إعادة النظر في نماذج أعمالها لتحافظ على حضورها وقدرتها التنافسية في السوق، وهذا يعني إيجاد طرق جديدة لتحسين عروضها وخدماتها المصرفية، والتعاون مع شركات التقنية المالية والمؤسسات المعنية الأخرى لتحقيق القيمة للعملاء. وفي هذا الشأن قال جورج كامارات، من مجموعة "استراتيجي الشرق الأوسط"، وهي جزء من شبكة PwC: "المصرفية المفتوحة تفرض على البنوك كشف أنظمتها (مثل بدء الدفع) وبياناتها (مثل معلومات الحسابات) المصرفية إلى أطراف ثالثة، بعد الحصول على موافقة العميل طبعاً، وهذا يتيح للأطراف الثالثة تطوير منتجات وخدمات مناسبة لعملاء هذه المؤسسات المالية، ومن شأن تمكين الشركات الناشئة من الوصول إلى هذه البيانات أن يعزز المنافسة والابتكار، وقد بدأت كل من البحرين والاتحاد الأوروبي وهونغ كونغ والمملكة المتحدة بالفعل في تطوير أو تطبيق لوائح تنظيمية للمصرفية المفتوحة، وفي أسواق أخرى، مثل سنغافورة والولايات المتحدة، تضطلع الجهات التنظيمية بدور إشرافي لتسهيل هذه الخدمات عبر توفير التوجيه والتنسيق غير الملزمين. وقد أصدر البنك المركزي السعودي في يناير 2021 سياسة المصرفية المفتوحة في إطار سعيه إلى تنويع الخدمات المالية، تحقيقاً لأحد الأهداف الرئيسة لبرنامج تطوير القطاع المالي المنبثق من رؤية المملكة 2030، ويأتي ذلك بعد سلسلة من المبادرات التي أطلقها البنك المركزي السعودي منذ العام 2018 لحفز الابتكار في القطاع المالي على الصعيدين الوطني والإقليمي. وقد تسارعت وتيرة الابتكار في مجال المدفوعات، تحديداً بعد اعتماد برنامج تطوير القطاع المالي. فمنذ العام 2018 ارتفع عدد الشركات الناشئة السعودية في قطاع التقنية المالية من 10 إلى أكثر من 60 شركة، يعمل نحو 40 % منها في مجال المدفوعات. وهناك العديد من العوامل التي تجعل السوق السعودية على أهبة الاستعداد لاعتماد المصرفية المفتوحة بالحد الأدنى من الارتباك، فالعدد الصغير نسبياً من البنوك العاملة في المملكة قد يساهم في تبني وتوحيد معايير المصرفية المفتوحة بشكل أسرع من الأسواق الأخرى. تقنيات الدفع الرقمية ويرى كل من د. أنطوان خديج -مدير أول-، وبيرنادين كلارك -مستشار أول- في "استراتيجي الشرق الأوسط"، أن حماس الغالبية الشابة من سكان المملكة لاستخدام تقنيات الدفع الرقمية، كما تحظى المنظومة الناشئة للتقنية المالية بدعم قوي من الحكومة والبنك المركزي السعودي، علاوة على ذلك، تمتلك المملكة أصلاً بنية تحتية متطورة للمدفوعات يتم تحديثها على نحو منتظم من قبل شركة "المدفوعات السعودية" التي أنشأها البنك المركزي، وقد نجح نظام سداد المدفوعات السعودي "سداد" في تيسير عمليات التحويل بين الحسابات، ويمكن لذلك أن يشكل نقطة انطلاق للمصرفية المفتوحة، وفي المقابل، فإن بعض الجوانب الأخرى لاتزال بحاجة إلى التطوير والتحسين، ومنها على سبيل المثال، نظم معالجة المدفوعات باستخدام البطاقات لتسهيل تحويل الأموال بين المشترين والبائعين، إذ تفتقر هذه النظم إلى إمكانية التنفيذ الفوري للعمليات، ففي أفضل الأحوال يتلقى التجار أموالهم في نهاية اليوم، وقد يضطرون أحياناً للانتظار بضعة أيام قبل استلام مستحقاتهم، وعليه فإن المصرفية المفتوحة تشجع على المنافسة وتوفر للبنوك القائمة مزيجاً من التحديات والفرص. وسيكون لزاماً التخلي عن نموذج "العمل الذاتي" الذي يكون فيه البنك المنتج والموزع الوحيد للمنتجات والخدمات المصرفية، وبدلاً من ذلك سيتم الانتقال إلى نموذج جديد تواصل فيه البنوك تطوير منتجاتها وخدماتها الخاصة، مع إسناد مهام التوزيع إلى شركات التقنية المالية والأطراف الثالثة الأخرى، أو تتولى البنوك تقديم المنتجات والخدمات التي طورتها شركات التقنية المالية وغيرها، ولضمان استمرار قدرتها على تلبية متطلبات العملاء تحتاج البنوك الحالية إلى استخدام بيانات المعاملات لتحسين خدماتها وتقديم منتجات جديدة؛ مثل "اشترِ الآن، وادفع لاحقاً"، ومجمعات الحسابات (التي تجمع معلومات الحسابات)، والإدارة المالية الشخصية. وقد تحدثنا إلى عدد من الخبراء وصناع القرار في قطاع المدفوعات في المملكة، ومنهم عادل الراجحي -المدير العام المساعد في قسم المدفوعات الرقمية في مصرف الراجحي- الذي قال: "توفر المصرفية المفتوحة فرصاً مهمة للغاية لإطلاق منتجات وخدمات مبتكرة، وتعزيز التعاون مع مختلف الأطراف المعنية بغية توفير أفضل الخدمات لعملائنا". وتحظى شركات التقنية المالية الناشئة بموقع قوي في منظومة المصرفية المفتوحة، حيث يمكنها الوصول إلى بيانات العملاء واستخدامها لتحسين المنتجات وتجارب العملاء، ويوجد بالفعل ثلاث من هذه الشركات في المنطقة هي "لين" (المملكة العربية السعودية) و"دابي" (دبي) و"بوابة ترابط" (البحرين). وفي هذا السياق قالت منى يحشوشي -الرئيس التنفيذي لشركة إي مكري، وهي شركة لتوفير الحلول التقنية في السعودية-: "يعتمد نجاح مفهوم المصرفية المفتوحة بشكل كامل على التعاون الوثيق بين البنوك وشركات التقنية المالية لبناء منصات متكاملة تتيح لمزودي خدمات الدفع إمكانية الوصول بسهولة إلى واجهات برمجة التطبيقات" وتمهد هذه الشركات الطريق نحو مزيد من الابتكار، وتطوير منتجات أفضل، وزيادة شفافية السوق. ومع أن الأمر مشجع لازدهار منظومة تقنيات الدفع، إلا أن المنافسة ستؤثر أيضاً على الشركات الناشئة واللاعبين المتأصلين في السوق، وستحتاج منصات الدفع الحالية مثل stc pay، و"جيديا"، و"شور"، و"سلّة" إلى التكيف مع التغييرات الناجمة عن اعتماد المصرفية المفتوحة. وفي الوقت ذاته، سيمتلك العديد من الشركات الناشئة الصغيرة تحديداً والتي جهدت حتى الآن للعثور على بنك راعٍ لتقديم خدماتها قدرة أكبر على بسط سيطرتها، حتى إنها قد تهدد في نهاية الأمر شركات التقنية المالية الأبرز اليوم. ومن العوامل الأخرى، التي قد تربك المنظومة المالية لدى اعتماد المصرفية المفتوحة، دخول شركات التقنية المالية العالمية الكبرى لاغتنام فرص الاستثمار المتاحة في الخليج.