إن إدراك بعض الجهات لأهمية وماهية "اللوبيات" مكنها من بناء "لوبيات" -جماعات ضغط أو مصالح- على مدى عقود حتى استطاعت أن تحقق أهدافها وتؤثر في المقابل على مصالح منافسيها بالوقت المناسب وبالأسلوب والأدوات الفعَّالة. إنها عملية معقدة ومركبة، ولكنها ليست مستحيلة إذا وُظفت الأدوات والإمكانات والموارد بالشكل والطريقة الصحيحة... "لوبي"، كلمة يتردد استخدامها كثيراً على مستويات عدة ومتدرجة بداية من الرأي العام، ومروراً بالأوساط الإعلامية بمختلف وسائلها، وصعوداً إلى المستويات الفكرية والبحثية بمختلف توجهاتها، ووصولاً إلى المستويات السياسية بمختلف درجاتها. إذاً نحن أمام كلمة، أو مصطلح إن جاز التعبير، واسع الانتشار على المستويات العالمية بمختلف توجهاتها الفكرية والأيديولوجية والسياسية، مما يعني أن هذه الكلمة تحمل في مضامينها معاني عميقة استدعت تواجدها الدائم على كافة المستويات وفي كل المجتمعات. فإذا افترضنا كذلك أن لهذه الكلمة "لوبي" معاني عميقة ومهمة استدعت تواجدها الدائم في كافة المستويات وفي كل المجتمعات، فإن ذلك الافتراض المنطقي يستدعي أيضاً طرح تساؤل غاية في الأهمية وهو: هل هذا الانتشار الواسع والاستخدام المتكرر لكلمة "لوبي" يعني أن جميع المجتمعات بمستوياتها المختلفة فهمت كيفية نشأتها، وعمق معانيها، وأدركت مدلولاتها، واستوعبت أهدافها وقوة تأثيرها، وعرفت طريقة بنائها وآلية عملها وكيفية توظيفها؟ أم أن المسألة لا تعدو أن تكون لدى بعض المجتمعات تكراراً سطحياً لكلمة سهلة النطق، قليلة الأحرف، واسعة الانتشار؟ وفي الوقت الذي تعتبر فيه الإجابة على هذه التساؤلات مسألة غاية في الأهمية، إلا أن الذي يعنينا هنا هو كيفية صناعة "لوبي" أو "لوبيات" -جماعة ضغط أو مصالح؟- قد يبدو للوهلة الأولى أن صناعة "لوبي"، وجمعها "لوبيات"، عملية سهلة وبسيطة وسريعة وميسرة قياساً على التداول الواسع والانتشار العريض للكلمة، وبناءً على التغطية الإعلامية السطحية للقرارات والأحداث السياسية، وعدم الدراية بآلية صنع السياسة العامة وغاياتها، والجهل التام بتطور السياسة الدولية وماهية العلاقات الدولية، وقبل ذلك عدم المعرفة الدقيقة بالبيئة والثقافة المجتمعية التي نشأت بداخلها هذه الكلمة؛ إلا أن الحقيقة تقول بأن صناعة "لوبي" أمر غاية في التعقيد والصعوبة لاعتبارات عديدة منها: أنه يتطلب أدوات وآليات عمل نوعية؛ ومهارات فكرية احترافية؛ وقدرة عالية على الصبر لأعوام وعقود حتى تتحقق النتائج المرجوة. "لوبي"، مصطلح سياسي ازدهر استخدامه حديثاً في المجتمعات الغربية للتعبير بشكل أو بآخر عن جماعة مصالح معينة تحاول التأثير على أصحاب السلطة، وخاصة أعضاء السلطة التشريعية، البرلمان، لتحقق أهداف الجماعة بإصدار تشريعات وقوانين تؤيد مصالحها أياً كانت سياسية، أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو صحية، أو زراعية، أو صناعية، أو عسكرية، أو مصادر طاقة، أو خدمة توجهاتها الفكرية والأيديولوجية. ومن هذه المُنطلقات العامة لكلمة "لوبي" يمكن القول بأن أول وأهم خطوة من خطوات صناعة "لوبي" أو "لوبيات" يجب أن تبدأ من فهم البيئة والثقافة الغربية التي ازدهر فيها، ومعرفة الأسباب الدقيقة التي أدت لنشأتها وترعرعها في المجتمعات الغربية، والإلمام بالأساليب والأدوات والآليات الأساسية التي تم استخدامها لتحقيق نتائج إيجابية تخدم أهداف ومصالح تلك الجماعة. إن هذه الخطوة الأولى هي الأكثر أهمية لأنها تساهم في توفير الكثير من الوقت والجهد والمال والموارد عند السعي لصناعة "لوبي" يخدم مصلحة أو مصالح محددة. وبالبناء على الخطوة الأولى، يمكن القول بأن عملية صناعة "لوبي" إنما هي عملية هرمية تبدأ من الأسفل إلى الأعلى بخطوات احترافية ومتقنة، ومن هذه الخطوات: تحديد الهدف المباشر والمصلحة العليا التي تتطلع الجهة لتحقيقها والحصول عليها من الجهة الأخرى المستهدفة؛ تحديد الأليات والأدوات القادرة على تحقيق الهدف المباشر والمصلحة العليا بشكل دقيق وفعَّال؛ اختيار الموارد البشرية المؤمنة إيماناً كاملاً بالمصلحة العليا، والمؤهلة تأهيلاً علمياً وفكرياً وثقافياً وعارفة ببيئة وثقافة الجهة الأخرى المستهدفة لتتمكن من العمل والتواصل بالشكل الصحيح والسليم؛ اختيار الموارد البشرية من الجهة الأخرى المستهدفة من القيادات وأصحاب الرأي والخبرة والفكر الفاعلين سياسياً والقادرين على خدمة الهدف المباشر والمصلحة العليا للجهة صاحبة المصلحة؛ أن تعمل جميع المؤسسات والأدوات والموارد بنفس الوقت وتبذل أقصى جهد في سبيل تحقيق الهدف المباشر والمصلحة العليا؛ أن تكون الشفافية والوضوح والعمل بشكل مُعلن أمام الرأي العام والمؤسسات الرسمية أصلاً ثابتاً في آلية وطريقة العمل؛ أن يتم تحديد وسائل وأدوات وآليات العمل والجهات المستهدفة للتأثير عليها أو من خلالها بشكل دقيق؛ أن تتاح الفرصة لجميع الأفراد لخدمة الهدف المباشر والمصلحة العليا للجهة كلاً في مجاله لتكثيف التواصل مع أطراف الجهة الأخرى، ولزيادة التأثير واختصار الوقت وتوزيع الجهد، وضمان استمرارية العمل لأجيال قادمة؛ أن يكون الهدف النهائي لصناعة "لوبي" هو خدمة المصلحة العليا للجهة على المدى المتوسط والبعيد سواء بتحقيق إيجابيات ومكاسب مختلفة، أو بتقليل السلبيات والخسائر المتوقعة؛ أهمية أن يؤمن الجميع بأن صناعة "لوبي" تتطلب صبراً كبيراً يمتد لعقود من العمل الاحترافي المستمر والمتواصل. إن الذي يجب إدراكه هو أن عملية صناعة "اللوبيات" -جماعات ضغط أو مصالح- إنما هي عملية طويلة ومعقدة ومركبة تحتاج إلى استراتيجية متكاملة، أو خطة عمل دقيقة، تحدد الأهداف المُراد تحقيقها، والأساليب والأدوات الصحيحة والسليمة الممكن استخدامها، والموارد المالية والبشرية المطلوبة، والمعرفة الدقيقة والعميقة بالبيئة والثقافة التي ستعمل بها، والخطة الزمنية المطلوبة لتحقيق المصلحة العليا المنشودة؛ مع الأخذ بعين الاعتبار وجود منافسين شرسين يسعون لتحقيق مصالحهم على حساب مصالحك. إن عدم فهم آلية صناعة وعمل "اللوبيات" أدى لرسم تصور خاطئ لدى الرأي العام عن ماهية "اللوبيات" حتى قللوا من شأنها وقدرة تأثيرها، وأساؤوا في المقابل لصورة الجهة التي تسعى لتحقيق أهدافها ومصلحتها العليا حتى كلفها الكثير من الخسائر المالية والاعتبارية. وفي الختام من الأهمية القول إن إدراك بعض الجهات لأهمية وماهية "اللوبيات" مكنها من بناء "لوبيات" -جماعات ضغط أو مصالح- على مدى عقود حتى استطاعت أن تحقق أهدافها وتؤثر في المقابل على مصالح منافسيها بالوقت المناسب وبالأسلوب والأدوات الفعَّالة. إنها عملية معقدة ومركبة، ولكنها ليست مستحيلة إذا وُظفت الأدوات والإمكانات والموارد بالشكل والطريقة الصحيحة.