البعض ينتظر التقاعد بفارغ الصبر، ليس ليمارس نشاطاً آخر مختلفاً، أو هواية طال انتظارها، لكن ليرتاح من عناء العمل والروتين الممل - كما يخيل له - لكنه في الحقيقة يستسلم للكسل والفراغ دون أن يدري، ما يجعله عرضة للأمراض البدنية والنفسية.. ورثنا من الماضي ممارسات كثيرة خاطئة، ورغم ذلك نتمسك بها ونأخذها كمسلمات وممارسات غير قابلة للشك أو التغيير، ذلك أن الخروج عن النسق السائد صعب وغير محبذ، ومن يحاول الخروج على المألوف يواجه الكثير من المثبطات والمقاومة، وعلى سبيل المثال كان سنّ الستين هو السن الذي يتوقف فيه الإنسان عن العمل والعطاء، ذلك أن معظم الأعمال في الماضي تحتاج إلى جهد بدني كالزراعة والصناعة، وكان متوسط الأعمار لا يزيد على الستين سنة، ولذا كان سنّ التقاعد في كثير من الدول بين الستين والخامسة والستين، واستمر على ذلك رغم تحسن الصحة وزيادة متوسط الأعمار، ورغم اعتماد كثير من الأعمال على الخبرة والجهد الفكري أكثر من البدني. الأمثلة على عطاء الإنسان بعد سن التقاعد كثيرة، ولو ننظر حولنا سنرى الكثير من كبار السن ممن تجاوزوا سن الستين والسبعين لا يزالون يعملون كمهندسين ورؤساء تنفيذيين ومدربين ومعلمين ومحامين وأطباء وأساتذة جامعات ووزراء لم يقبلوا فكرة التقاعد، بل واصلوا تقديم إسهامات ذات فائدة عاماً بعد عام، وعلى سبيل المثال لا الحصر لا يزال رجل الأعمال سليمان الراجحي يعمل في التجارة والصناعة والتنمية والأعمال الخيرية بكل جد ونشاط، ومن الأمثلة أيضا الدكتور أحمد أبانمي الذي بنى مستشفاه الثاني والذي يتسع لأربع مئة سرير بعد أن تجاوز سن السبعين غير آبه بالكثير من الآراء ونصائح المقربين منه التي تحثه على التوقف عن العمل والركون إلى الراحة. وعلى المستوى العالمي حصل العالم الأميركي الدكتور جون جودينف قبل عامين على جائزة نوبل في الفيزياء وهو في السابعة والتسعين من جامعة تكساس أوستن، وقد تقاعد من جامعة أوكسفورد في بريطانيا عام 1968 فالتحق بجامعة تكساس أوستن التي لا تطبق نظام التقاعد لمجرد السن، فواصل العطاء حتى نال تلك الجائزة. ومثله الرئيس جيمي كارتر الذي خسر الانتخابات الأميركية في العام 1980 أمام الرئيس ريجن، وقد كان أمامه خياران إما أن يحذو حذو من سبقه من الرؤساء ويكتفي بكتابة مذكراته وإعطاء المحاضرات وتأسيس مكتبة، خصوصاً أنه تبوأ أهم وأقوى منصب على مستوى العالم، أو العمل بما هو قريب إلى قلبه، وهو ما فعله حين استيقظ ذات صباح وقرر أن يصبح عنصراً فاعلاً في التغيير الإيجابي على مستوى العالم، فأصبح داعية سلام ومساهماً في حلّ أهم ما يواجه العالم من تحديات، فقام هو وزوجته بتأسيس (مركز كارتر) الخيري حيث أسهم في رعاية مشروعات صحية، وبناء مساكن للمحتاجين وغيرها حتى أصبح كارتر أكثر الرؤساء السابقين نشاطاً على مستوى العالم، ولم يكن أنشطهم فحسب، بل كان من أسعدهم أيضا. معظم المفاهيم التي يتداولها الناس عن التقاعد بحاجة إلى تصحيح حتى يستمر عطاء الشخص والاستفادة من خبراته المتراكمة وذلك بالخطوتين الآتيتين: أولاً: بالاستعداد للتقاعد مبكراً بالمحافظة على الصحة والأسرة والمال، وهي الأشياء التي تبقى مع الشخص لتعطي وتستمتع بحياته بعد الستين والسبعين وما بعدها، في محاضراتي ولقاءاتي مع الشباب أقول لهم: فكروا فيما بعد الخمسين حافظوا على الصحة، عليكم ألا تسحبوا الكثير من رصيدكم الصحي الذي لا يعوض، التدخين والسمنة والسهر على سبيل المثال تأخذ من رصيدك الصحي، والرياضة والغذاء الصحي ومكافحة العادات المضرة تضيف أعواماً صحية إلى رصيدك الصحي بمشيئة الله. ثانياً: تهيئة المتقاعد للعمل المناسب بعد تقاعده كما تعمل بعض الدول المتقدمة ومنها الولاياتالمتحدة الأميركية فيما يخص أفراد قواتها العسكرية حيث يتقاعد الكثير منهم في سنّ مبكرة، مما يجعل تخصصه مناسباً للعمل مع شركات لها علاقة بوزارة الدفاع، أو مساعدته ليبدأ مشروعه الخاص الذي يتناسب ومؤهلاته وميوله. البعض ينتظر التقاعد بفارغ الصبر، ليس ليمارس نشاطاً آخر مختلفاً، أو هواية طال انتظارها، لكن ليرتاح من عناء العمل والروتين الممل - كما يخيل له - لكنه في الحقيقة يستسلم للكسل والفراغ دون أن يدري، ما يجعله عرضة للأمراض البدنية والنفسية. الحياة رسالة وليست مهنة فقط، كما أنها ليست إجازة دائمة، بل عطاء مستمر سواء كان في نفس المجال الذي يعمل فيه الشخص قبل سنّ الستين، أو في مجال آخر يجد فيه ما يشغل فراغه وما يوظف فيه إمكاناته المادية والفكرية.. يقول الفيلسوف "فريدريش نيتشه": "إن من لديه هدف يعيش من أجله يستطيع تحمل أية صعوبات في الحياة".