كثيرة هي الدراسات العربية والاستشراقية المعنية بتتبع أثر مؤلفات التراث العربي في الثقافات الأخرى، فمنها ما توصّل إلى أن جحيم دانتي متأثر برسالة الغفران للمعري، وثمة آراء تشير إلى أثر طوق الحمامة لابن حزم في الشعر الغنائي الإسباني ومثالها قصيدة «الحب الطيب» للشاعر خوان رويث، استمر هذا الأثر إلى قرون متأخرة، وفي بحث سريع عن مؤلفات الغرب منذ ظهور ترجمة أنطوان غالان لنص ألف ليلة في القرن الثامن عشر، يظهر لنا ما لا يتسع له المقال من المؤلفات الغربية المبنية على قراءات أصحابها للأدب العربي، فقد كتب للمسرح الإسباني «لوب دي فيجا» مسرحية الخادمة تيودور اقتباساً من حكاية الجارية تودّد، كما صرّح بورخيس بتأثره شخصياً في نتاجه القصصي بقراءات ألف ليلة وليلة. ولو عدنا للشق العربي في المسألة، ستظهر لنا مقابلة تلفزيونية قبل خمسين عاماً طه حسين وهو يقرّ بارتدادات قراءاته الأولى وأثرها في كتاباته، ولعلّ أهم ما اطلع عليه لزعماء الثقافة العربية - على حد تعبيره - البيان والتبيين للجاحظ، والكامل في اللغة والأدب للمبرّد. لا يعني ذلك حصر الوِرْد على عيون التراث العربي، رغم أنّ النبع في عمقه وصفائه ما يدفع لعبّه حتى التضلّع، خاصة في زمن التكوين المبكر للحصيلة المعرفية، ومن هنا تتأتى الضرورة بأثرٍ مائز عما سواه، يدفع شبهة الاغتراب عن الثقافة الأم. تشكّل القراءات الأولى في مسيرة المرء المعرفية، الهيكل الذي يبني عليه مصفوفاته الثقافية مكتسبا طابعه الخاص، ولنا في أعلام الثقافة، مفكرين وأدباء وفنانين أمثلة تفيض بها كتب السير، أعادني ذلك إلى زمن المطالعات الأولى في التراث العربي وأذكر على وجه التحديد الكامل للمبرّد، فهو بمثابة موسوعة تقع في جزءين، شملا أقوالاً منثورة وأمثالاً وأشعاراً ومجتزءات لخطب ورسائل لمشاهير وآخرين مغمورين من فصحاء العرب، وغير العرَب - ممن تعلموا العربية وأجادوها - كما شمل تفاسير وشروحات لغريب القول ومعاني الكلمات المُشكِلة، وفيه تساق من الحوادث والأخبار ما تصح به اللغة، ويتقوّم به اللسان، ويتلطف الحديث. وهنا أتلمس الأثر بالعودة إلى طه حسين الذي لم يمنعه خوضه في الثقافة الغربية، وإتقان الفرنسية من الاشتغال بالأدب العربي في رسائله العلمية لنيل درجتي الماجستير والدكتوراة، بل وتكريسه جهدًا سخيًا لبث الوعي بأثر الحضارة العربية في الحضارة الأوروبية متمثلة في الفرنسية، كان ذلك على هيئة محاضرات وندوات بلغ مرتادوها الآلاف. إنّ نظرة ماسحة لواقع الثقافة في عالمنا العربي، تُظهر القارئ العربي غير معني بتراثه الأدبي، وأي دعوة للتقريب بين الجيل وعيون الأدب تبدو كطلاسم سحرية غير مفهومة تؤتي عكس ما يُرتجى، فثم شباب غرقى في آداب الأمم الأخرى يقرؤونها سواء بلغتها الأم، أو بترجمتها العربية، وربما اشتغل نفر منهم بالكتابة، هم يترفعون عن مطالعة تلك المصادر الثرية، يستوي في الأسباب الكبر والجهل ولا غرابة، فالفكرة مبنية على تغليب الظنّ بضعف الفائدة عِوض يقين التجربة، وازدراء الثقافة الأم إثر الانبهار بثقافة الآخر، وهو أمر مبرر أيضا فأينما كانت القوة المادية، اصطفت معها كل القوى الناعمة على حساب الآخر الأضعف بالضرورة. أنطوان غالان مترجم ألف ليلة وليلة كتاب الكامل للمبرد