لا تزال حكايات "ألف ليلة وليلة" تبدو كأنّها "مغازلة تاريخية" تمارس سحرها وجاذبيتها على المخيلة الغربية، على رغم الصراع المستمرّ والمتفاقم بين الشرق والغرب. إنّه الكتاب الذي سيظلّ مفتوحاً على قراءات لا تنتهي، على حدّ تعبير المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل. فبعد ترجمات عدة لهذا الكتاب وإصدارات متعدّدة، سيظلّ هذا النتاج يفاجئ قارئه لأنّه انعكاس لواقع معيّن، إضافة إلى تطرّقه إلى موضوع لا يمتّ فقط إلى الماضي بل هو جزء من الحاضر المعاش. بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية الثالثة للترجمة الفرنسية الأولى لحكايات "ألف ليلة وليلة" على يد المستشرق الفرنسي أنطوان غالان عام 1704 أصدرت دار "أكت سود" كتاباً جديداً بعنوان "تقاسم ألف ليلة وليلة"، والكتاب تحت إشراف أبو بكر شرايبي، وهو محصّلة الملتقى الذي عقد أخيراً في باريس حول "ألف ليلة وليلة" بصفتها مادّة لقاء بين ثقافات مختلفة، بمشاركة خمسة وثلاثين باحثاً وجرى تحت إشراف منظمة اليونسكو بالاشتراك مع "دائرة البحث حول العالم العربي" التابعة ل"المعهد الوطني للغات الشرقية" في العاصمة الفرنسية. من الدراسات التي تضمّنها الكتاب دراسة بعنوان "هل شهريار قاتل بالجملة؟" للباحثة اللبنانية هدى محيو التي تتناول موضوع القتل الذي يمارسه شهريار فجر كل يوم بحقّ المرأة التي تشاطره ليله، وهو قتل يتكرّر كل مرّة مع امرأة جديدة. تحلل الباحثة جريمة القتل اليومية وتعتبر أن دوافعها كامنة في نفس شهريار الذي يقبل على قتل النساء تخلصاً من التعلّق بهنّ، ولأنّ مجرد الشعور بالارتباط العاطفي، بالنسبة إليه، هو تعبير عن الألم. لذلك يرفض الملك عيش صدمة الخيانة ومواجهتها، تجنباً للمصير الذي ستأخذه المرأة إليه كما أخذته إليه زوجته. لذلك يقرّر أن تكون المرأة، كلّ امرأة، وسيلة للمتعة فحسب وتستحقّ الموت. وتخلص الباحثة إلى القول ان العلاقات الوحيدة التي ينجح شهريار في إقامتها لا تقوم على العاطفة بل على السلطة. من جهة ثانية، تركّز الباحثة المصرية فريال غزول من الجامعة الأميركية في القاهرة في مداخلتها "شهرزاد في ما بعد الحداثة" على بعض الكتابات المعاصرة المتمثّلة في روايات ثلاث هي على التوالي: "شيمرا" للأديب جون بارت، "الليالي العربية" لروبار اروين و"هارون ونهر القصص" لسلمان رشدي. وترصد علاقة القصّ الحديث بأسلوب السرد المتّبع في "ألف ليلة وليلة"، كما ترصد الحضور القوي لشخصية شهرزاد. وتلاحظ الباحثة أنّ بارت "إذا كان يعيد في روايته المذكورة إنتاج العناصر البنيوية للّيالي وان بصورة معكوسة، فإن اروين عمل على تقديم نموذج فني ينتقد "الليالي" ويجمع في صورة خيالية بين كتابات بورخس وماركيز وايكو". أما سلمان رشدي فقد أعاد، بحسب الباحثة، بثّ روح "ألف ليلة وليلة" في روايته "هارون ونهر القصص". وحتّى وإن كانت رواية رشدي موجهة للأطفال فهي تتوجّه كذلك إلى الكبار، إذ صاغ الكاتب عناصرها بطريقة حديثة تعكس تجربته الشخصية وهاجس حرية التعبير عنده. تحت عنوان "ميشيما وألف ليلة وليلة" سأل الباحث الياباني شيكاكو موري عن الصلة التي تربط بين "ألف ليلة وليلة" وكاتب "سرداق الذهب" وما مدى استلهام الكاتب من هذه القصص العجيبة والفريدة من نوعها في الأدب العربي؟ لكن كيف قرأ ميشيما الحكايات وكيف ربطها بالمجتمع وبالفكر اليابانيّين؟ يجيب شيكاكو قائلاً: "تحتل الليالي مكانة مركزية في نتاج يوكيو ميشيما. ولقد استوحى منها، سواء في أعماله الروائيّة أو المسرحية أو النقدية، وكانت بالنسبة إليه منبعاً ارتوى منه طوال تجربته الأدبيّة. من هنا، شكّلت حكايات "ألف ليلة وليلة" عنصراً أساسياً في مشروعه الفني، كيف لا وكانت هذه الحكايات هي القراءات المفضلة لديه في مرحلة الطفولة". يلاحظ الباحث الياباني ايضاً أن هذا النمط من القراءات كان بمثابة الدافع القوي نحو الكتابة وكان وسيلة تمرّد على السلطة الأبوية وقيود المجتمع. يدعم الباحث رأيه هذا بعبارة لميشيما جاء فيها: "كانت هذه الحكايات تجذبني ليس فقط لما تتضمّنه من السحر بل أيضاً لما كانت تفيض به من خيالات وأشواق". هكذا وجد ميشيما في "ألف ليلة وليلة" بعض العناصر الكلاسيكية الموجودة في الثقافة اليابانية فكانت بذلك وسيلته لإعادة قراءة ثقافته الأم. من جانب آخر، تطرّقت بعض هذه الدراسات لصور الشرق المتعدّدة في المخيّلة الغربيّة. هذه الصور بصيغتها الأدبية والشاعرية سحرت مخيلة الغرب وأثارت الإعجاب بالشرق حيناً، وفي أحيان أخرى جاءت قاتمة ومسمومة بأيديولوجية العنف والصراع الحضاري. يؤرّخ الكتاب كذلك للمنابع الثقافية التي استقت منها الليالي بشقّيها الهندي - الفارسي من جهة والعربي من جهة ثانية، كما يشير إلى العلاقة الوثيقة بين أشكال الحكايات والملاحم والمغامرات وعلاقة هذه القصص بالأعمال الأدبية الحديثة في اللغة العربية والكثير من اللغات الأجنبية. وفي هذا السياق يتوقّف أبو بكر شرايبي عند الأصول الفارسيّة ل"ألف ليلة وليلة" وترجمتها إلى العربية بين نهاية القرن الثامن وبداية القرن التاسع، والتحولات التي عرفتها الحكايات ونقلها عبر مختلف المراحل التاريخية وصولاً إلى سنة 1704 تاريخ ترجمتها إلى الفرنسية على يد انطوان غالان. لقد كان هذا الأخير بالنسبة إلى "ألف ليلة وليلة" ما كانه "شامبليون" بالنسبة إلى الحضارة الفرعونية. وكان غالان أيضاً قد قدّم، من خلال الترجمة التي وضعها، نصاً أدبياً كلاسيكياً أجرى عليه تعديلات فحذف القصائد وعرّى النص من الإيحاءات الإباحية، بما يتلاءم وذهنية القارئ الفرنسي في ذلك القرن. وكانت ترجمة غالان المفتاح الأساس لدخول "الليالي" إلى الغرب. أمّا كيف وصلت الحكايات أو مخطوطاتها إلى يد هذا المستشرق؟ قد يكون حصل غالان، أثناء إقامته في الشرق في الفترة ما بين 1679 و1688، على مخطوطات استقى منها نصوصه الأولى، وقد تكون هذه المخطوطات هي التي تحتوي على حكايات "رحلات السندباد البحري" التي بدأ غالان بنقلها إلي الفرنسية عام 1701. لكن المترجم اكتشف أن هذه الحكايات إنما تؤلف جزءاً من "نتاج هائل" هو بعنوان "ألف ليلة وليلة". ومنذ ذلك الحين سعى غالان إلى الحصول على مخطوطات من الشرق بواسطة صديق له من حلب كان مقيماً في باريس. وهكذا فإن الأجزاء الثمانية التي ترجمها ونشرها من "ألف ليلة وليلة" كان مصدرها إما المخطوطات التي كانت في حوزته أو التي وصلته من الشرق، أما بقية الحكايات التي استكمل بها غالان أجزاء "ألف ليلة وليلة" فإن موجزها مسجّل في يومياته الموجودة في "المكتبة الوطنية الفرنسية" في باريس. إلى ذلك جاءت طبعة غالان سابقة للطبعة العربية الأولى نفسها التي صدرت في "كلكوتا" عام 1814 والتي انطفأ بريقها سريعا أمام طبعة "بولاق" المصرية 1835. فبعد النجاح الكبير الذي عرفته طبعة "غالان" في أوساط القراء توالت الترجمات في الغرب منها ترجمة "مارديروس" 1899، تلتها بالإنكليزيّة ترجمة لاين وبورتون، وبالألمانيّة ترجمة ماكس هنينغ وبالإسبانيّة "كاسينوس آسنس"... ترجمات تعدّ كلّ منها قراءة من قراءات ل"ألف ليلة وليلة" وتختلف باختلاف المصادر وبحسب مرجعية المترجم والظروف التي وضع فيها ترجمته. تكثّفت نصوص "ألف ليلة وليلة" مع مرور الزمن وتنوّعت بحسب المناطق الجغرافيّة التي وردت منها المخطوطات. وإذا كان مؤلّف هذه الحكايات مجهولاً بالنسبة إلى البحاثة والدارسين، فمن المتّفق عليه أنّ هذا النتاج ينتمي إلى الأدب العربي في القرون الوسطى. لافت آخر يتوقّف عنده الكتاب هو طريقة السرد كما وردت في صوغ الأحداث والشخصيات وكانت دائماً ضمن إطار شفوي منظّم. لقد استطاعت هذه القصص التحكّم في فنّ التوقّف في مواضع محدّدة، والتقسيم الحدثي الذي أخذت منه تسمية الحكايات أصلاً. من ناحية المضمون، مسّت هذه الحكايات مسائل عدة وتطرقت لأسئلة أساسية في المجتمع منها ما يتعلّق بالعدالة وما يلازمها من مظاهر كالقوة والجنون والبراءة والخبرة والتحايل على خلفية دائمة يمكن اختصارها بصراع الحياة والموت. وتحتوي هذه الروايات على أنماط وأساليب كثيرة يتداخل فيها التصوّف والروحانيات إلى مشاهد الحياة اليوميّة بأشكالها ونوافلها، تماماً كما تتداخل الشخصيات على تنوّعها وتناقضاتها المختلفة، وفي ذلك اختصار واختزال للنفس البشريّة وككلّ... تنهل الحكايات، وفي قسم كبير منها، من الموروث القديم ومن الفولكلور الشعبي، وهي تشكّل لثرائها مادّة إيحائيّة من الطراز الأوّل، وتفتح آفاقاً واسعة أمام البحث والإبداع بوجوهه المختلفة، وفي جميع الميادين والحقول، منذ عقود من الزمن حتّى اليوم. إنّ تنوّع الموضوعات المطروحة في الحكايات وإطارها القصصي وتعددها الثقافي جعلها تدخل ما يمكن أن نطلق عليه تسمية "الكتابة اللازمنيّة" المفتوحة على كل الثقافات والعصور وعلى الإبداعات المختلفة، كما ذكرنا، لتصبح كما هي اليوم ذاكرة تاريخية عالميّة وملكاً للجميع.