من بين كل الفنون الموسيقية يبدو فن الأوبرا أكثر سحراً وتأثيراً في الذائقة والروح المتلقية، وهو فن لا يجيده إلا العباقرة من الموسيقيين الذين يملكون مزيجاً من الأدوات والقدرات التي يمكن أن تنتج أداء ما إن ينتهي إلا ويفعل الجمهور أحد أمرين: يصفق، يقول كم ذلك رائع. حين توجد الأوبرا يتبعها وجود مسرح، دراما، عاطفة، شغف، موسيقى، ألحان، طرب ونغم، أو بصورة أخرى وجود فكرة إبداعية كاملة ومتكاملة تعكس رقياً فنياً للمبدعين وجمهورهم. وقد أبرز الفن الأوبرالي عبر التاريخ العديد من عظماء الموسيقيين، ويبدو الإيطالي الرائع فينشينسو بيليني أحدهم بما أظهره من مواهب وقدرات خلّاقة وناضجة من خلال تأليف العديد من الأعمال الأوبرالية المتنوعة والمتعددة إلى جانب بعض السيمفونيات وكونشيرتو المزمار. أولى بيليني اهتماماً وتركيزاً كبيراً على النص ولحظات التعبير العاطفي الملتهب، ورغم أنه لم يقم بأي تغييرات مهمة في الهيكل الموسيقي للأوبرا الإيطالية، إلا أن ذلك لم ينتقص من إسهامه الموسيقي المؤثر من خلال أوبرا بل كانتو، وغالباً ما يُقارن أسلوبه اللحني بأسلوب البولندي فريديريك شوبان في معالجته الدقيقة لتفاصيل الأوبرا وموسيقاها. ولعلّ من أكثر ما يميّز أوبرا بيليني طريقة تعامله مع الأوركسترا في كل من النغمة والنص بما يعزز دائمًا نيته الدرامية في عمله الموسيقي، فقد أعطى الجوقة دوراً مهماً في الدراما، بدلاً من النمط الشائع في وقته. لذلك كان تأثيره محسوساً من جانب معاصريه واللاحقين له مثل جوزبي فيردي، حتى الناقد القاسي للأوبرا الإيطالية، ريتشارد فاجنر، لم يكن يملك إلا أن يُعجب بنورما، رائعة بيليني الأوبرالية ذائعة الصيت، وهي عن مأساة تدور أحداثها في بلاد الغال القديمة، والتي ألهمت أعظم مطربات السوبرانو في العالم، وهن مطربات يغنين بالطبقات العليا من الصوت. نال بيليني إعجاب أستاذه جواكينو روسيني الذي كان يرى أن موسيقاه كانت ناضجة وغنية عاطفياً، لكنها كانت فلسفية للغاية، لذلك نصحه «إذا قمت بتدريب قلبك على اللحن ثم قمت بتقديمه ببساطة قدر الإمكان، فسيكون نجاحك مضموناً. سوف تصبح ملحناً. وإلا فسوف تصبح عازف أورغن جيداً في بعض القرى»، وكان ذلك العامل الحاسم في إعادة اكتشاف مقدراته الموسيقية التي قدمها في أعماله وتدفق فيها بعاطفة مذهلة حتى أن فاجنر كتب بعد وفاته المبكرة أنه كان «كله عاطفة». عمل بيليني بإصرار على تصحيح بعض الانتهاكات الجسيمة التي طالت فن الأوبرا، حيث أخضع الأوركسترا المصاحبة للمغنين وألقى على أصواتهم مسؤولية التعبير الدرامي، وكان تعامله مع الأوركسترا في المقدمات بعيداً عن الروتين، ولذلك لا تزال موهبته في ابتكار الألحان الأكثر وضوحاً تحتفظ بهالة من السحر، إذ ظلت ألحانه وفية لمفهوم الموسيقي القديم، وترتكز إلى أولوية الغناء، الأمر الذي لفت انتباه عدد من الملحنين الرائدين مثل برونو ماديرنا، ولويجي نونو، الذي أعاد تفسير موسيقى بيليني على أنها خارج حدود الأوبرا. رغم حياته القصيرة، حيث رحل في الرابعة والثلاثين، إلا أن بيليني ترك إرثاً أوبرالياً لا يزال يتم تقديم عروضه بانتظام من قبل دور الأوبرا في جميع أنحاء العالم. ولا تزال موسيقى «القرصان» و»المتزمتون» و»السائر أثناء النوم» و»لا سونامبولا» و»نورما» و»أنا بوريتاني» تعني الكثير لعشاق الأوبرا، وقد نقشت على قبره تدوينات موسيقية من آخر أغنية في «لا سونامبولا»: «لم أصدق أنك ستتلاشى قريباً، يا زهرة»، ونعاه الشاعر ومؤلف نصوص الأوبرا الإيطالي فيليس روماني بتأثر بالغ وهو يكتب فيما كتب: «... عرفت بيليني طوال خمسة عشر عاماً وفي يوم واحد أخذه الموت مني». فينشينسو بيليني مسرح بيليني