هل يظن المنادون بالصحافة الرقمية أن الصحفي الحقيقي يمكن صناعته عبر فضاء تويتر أو الفيس بوك أو المدونات الشخصية؟ من الصحفي؟ ومن يمكن أن يطلق عليه هذا الوصف؟ وكيف تتم صناعة الصحفي الحقيقي والكاتب الصحفي المُتضلّع المؤثّر؟ من صنع ويصنع هؤلاء غير الصحافة التقليدية؟.. "لو كان الفلاسفة يتواضعون دوماً على معنى الكلمات، لزال معظم ما يدور من سجال". بهذه العبارة التقريرية الكاشفة، يضع الفيلسوف ديكارت يده على جوهر الاختلاف الدائر بين الأطاريح التي نمارسها في واقع حواراتنا ونقاشاتنا؛ تلك النقاشات التي ينتابها الكثير من التسرّع ومن ثم تكون المحصّلة محض هباء وخواء. وهذا ما ينطبق على السجال الدائرة رحاه حول الصحافة بعيداً عن مسمياتها التي يصبغها البعض عليها سواء ما اعتبروه صحافة تقليدية أو ورقية؛ تعدّدت الأسماء والمعالجة الضيّقة والملامسة القشرية واحدة. وحين تستخلص وتستصفي الرؤى المنطلقة حول هذا السجال لا يخفى على الأريب قلّة الورع المعرفي، وضآلة الوعي الثقافي؛ اللذان يمنحان من يتطارح - بتعجُّل - هذا السجال جسارة لافتة، واندفاعاً تهوّرياً في إطلاق الأحكام وتبنّي آراء جزمية قاطعة، وكذلك اطمئنان وثوقي بتوهّماته في ما استصفاه من غبار هذا السجال الدونكيشوتي. حين نصم ما يحدث من أطاريح وسجال حول الصحافة بقلة الورع المعرفي فإننا لا نكون مبالغين؛ فمن يقذف بآراء ذات نبرة وثوقية جازمة لا يمكن أن تعتبر ما يبديه من آراء نقاشاً أو سجالاً ولا تتوافر فيه أصلاً سمة الحوار والمطارحة الفكرية العقلية التي تثري النقاش والجدل وتترك مساحات لمحص الآراء وامتحان صمودها وفقاً لمنهجية فكرية ومنطقية في الرؤى والأفكار والقناعات والمُحاججة العقلية التي تحسم الخلاف وتسدّ الفجوات بين شقوق الجدل الدائر. الطرح التبسيطي والتناول القشري يبدوان واضحين فيما نقرأ من معالجات وتنظيرات بعيدة كل البعد عن اجتراح أفق لحل ورسم خارطة طريق ناجعة للإشكالية في قضية تتعلق بالإعلام والصحافة باعتبارها صناعة مهمة في عالمنا الفسيح المتمدد بحضاراته وشعوبه وتحدياته التي تتشعّب وتتعقّد بشكل مرعب؛ وتلعب الصحافة والإعلام فيه أدواراً حضارية وتنويرية وتغييرية وصناعة للرأي العالمي والتأثير في مساراته السياسية والثقافية والاقتصادية المتداخلة عبر أدوات الإعلام والصحافة المتواشجة بكامل ثقلها وحمولاتها الفكرية والمعرفية وما تستصحبه من حقائق ومعلومات وتأثير في حركية ودينامية الأحداث وصناعتها. كل هذا يضع الصحافة والإعلام في قلب الاهتمام والاستراتيجيات للدول ذات العمق الحضاري والامتداد الفكري والثقافي والتاريخي العميق. ومن هنا فموضعة الصحافة كقيمة كبرى وقوة ناعمة شكلاً وقوية وشرسة أثراً وتأثيراً وحضوراً، ومن ثمّ فإنّ اختزال دورها أو التعاطي معه بسطحية واستخفاف لا يخدم الأهداف الكبرى ولا يعزّز الحضور الحقيقي الخليق بالدول ذات الشخصية القوية والاعتبارية بمنظومتها القيمة والحضارية والإنسانية السويّة. ولأنّ المقالة لا تنطلق من شعور ثأري للصحافة التقليدية - كما قد يراها البعض - فإنّ المناقشة الهادئة هي المُبتغى والمُؤمّل؛ ولذا فإن الشعور بهباء السجال وخواء نتائجه وعدم ملامستها الواقعية للب المشكلة فضلاً عن الافتقار لحلول علمية وواقعية لمجابهة التحدي الذي تواجهه الصحافة بشكل عام يبدو مُبرّراً؛ وعليه يحقّ لنا التساؤل ماذا قدّم منتقدو الصحافة التقليدية من حلول؟ ما يُطرح بين الفينة والأخرى ليس سوى آراء مندفعة وأغلبها سطحي يلغي بشكل يدعو للحيرة الصحافة التقليدية والزعم بأنّ الصحافة الإلكترونية هي الحل والمنقذ لهذا التراجع - بحسب استنتاجاتهم - وكأنّ الصحافة كمفهوم وكقيمة وصناعة محصورة في ورق وأحبار؟ وكأنّ الانتقال مِنْ ضفّة الورق إلى الضفة التقنية الأخرى هي البديل؟ أو أنّ من وجد فضاءً مفتوحاً عبر الشبكة الرقمية قادر على أن يؤسّس صناعة صحفية وإعلامية حقيقية مؤثّرة؟ ولعل التساؤل يُلحّ: هل يظن المنادون بالصحافة الرقمية أن الصحفي الحقيقي يمكن صناعته عبر فضاء تويتر أو الفيس بوك أو المدونات الشخصية؟ من الصحفي؟ ومن يمكن أن يطلق عليه هذا الوصف؟ وكيف تتم صناعة الصحفي الحقيقي والكاتب الصحفي المُتضلّع المؤثّر؟ من صنع ويصنع هؤلاء غير الصحافة التقليدية؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها لكن ضيق المساحة ورحابة القضية يحولان دون تعقّبها واستقصائها ومن ثم إيجاد الحلول. لكن من المهم أن لا تأخذنا الحماسة المندفعة التي لا يرفدها وعي حقيقي بالمشكلة وجذورها في استمرارية هذا التطاحن والنقاش غير المثمر؛ علينا أن نقف على مسافة حقيقية من وعي بأنّ ثمّة مشكلة حقيقية ومؤرقة؛ وهي أن القارئ الحالي أو الغالب؛ لم يعد لديه الجلد والرغبة والشغف في بناء ثقافة حقيقية ووعي حقيقي؛ بات منساقاً للخِفّة الشعورية والفكرية؛ ولم يصمد أمام موجة تسليعه وتتفيهه بل وتسليعه وتشييئه بشكل يدعو للوقوف من مؤسساتنا الفكرية ومحاضننا البحثية للتصدّي لهذا المدّ التتفيهي والتسطيحي الذي خلق من القارئ والمتابع كائناً هلاميّاً بلا شخصية ناضحة بالنُّضج والتأسيس العقلي والفكري الذي يجعل منه متراساً وصدّاً مكيناً ضدّ أي تسطيح أو تعليب. أما آراء البعض ممن مازال يكتب في الصحافة التقليدية ويتمسّك بتمظهره عبرها نهاراً؛ ثم يندب حظّه وينثر نرجسيّته حولها ليلاً والتنادي مع الرفاق بموتها؛ فهو لا يعدو انتهاجاً وسلوكاً وحيلة نرجسية تتسلّل أناه المتورّمة عبرها. أما الآراء الجسورة الأخرى للبعض الذين لم يثبتوا حضوراً حقيقياً عبر الصحافة التقليدية ويرمونها بالمثالب فلا يعدو ما يطلقونه عن أن يكون عجزاً يتظاهر بالقُدرة؛ وجهلاً يتستّر بالتحذلق. فالصحافة باقية؛ وللتأكيد فهي - أي الصحافة - صناعة وفكر ودُربة وممارسة تحتاج لمن يلج عالمها أن يتسلّح بأدوات عديدة؛ ليست القراءة العميقة المكثفة أقلها، وليست مجرّد مُرادات ونيات تتلبّسنا وتجعل مِنّا كُتّاباً وصحفيين وإعلاميين لمجرّد ولوجنا الشبكة العنكبوتية الرقمية وممارسة الهياج الكتابي والفكري من دون تأسيس أو تجربة حقيقية تضعنا في ذاكرة الحدث والزمن والتاريخ.