-39 وروى ابن سلام بيت أبي زبيد في رجل افترسه الأسد: «تَذُبُّ عنه كَفٌّ بها رَمَقٌ - طَيْرًا عُكُوفًا كَزُوَّر العُرُسِ (2/611)، فعلق محمود شاكر: «عَكَفَتْ الطيرُ بالقتيل فهي عُكُوف: أقبلَتْ عليه واستدارت حوله وأقامت في مكانها ناظرة إليه، تترقبه حتى يهلك فتأكله. وأراد بالطير العكوف: النسور، لأنها التي تأكل القتلى والموتى، وتولع بها.. والعرب إذا قالت «الطير» في مثل هذا فإنما تعني النسور والعقبان، وانظر فصلاً جيداً كثير الشواهد في الخزانة 2/196-197. وقد أساء الجاحظ وثعلب غاية الإساءة، وأفسدا شعر العرب وكلامهم في شرح هذا البيت، قال ثعلب: «يعني بالطير الذبّان، فجعَلَهنّ طيراً وشبّه اجتماعهن للأكل باجتماع الناس للعرس»، وهو كلام مظلم خسيس ينبغي أن ينزه عنه مثل هذا الشعر. وقال الجاحظ أيضاً قولاً شبيها به، ولعله هو الذي أضله». أقول: أولًا أجمع اللغويون على أن «الطير» اسم عام لجماعة ما يطير، أيًّا كان نوعه، وذكروا أن منها سباعاً كواسب كالصقر والبازي والشاهين والعقاب (انظر المخصص 8/145، 148)، وأخرى بغاث تأكل الجيف والقتلى كالنسور والرخم والحِدَأة والغربان (السابق 8/143-145، 161، 172)، وحينئذ فالسياق هو الذي يحدد المراد، فمن التحكُّم على النص قَصْر دلالة الطير هنا على النسور خاصة أو النسور والعقبان. ولا أظن مِثْلَه يجهل هذا ولكنه لحبه الإغراب يذهل عن المعنى المعروف فتفيض نرجسية الإغراب من ذاته على النص الذي يشتغل بتفسيره، فيَرى فيه ما لا يُرى، كما سبق ذكره. ثانياً: كان تفسير ابن قتيبة للطير في مثل هذا المقام أسلم؛ إذْ قال في بيت النابغة: عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائبِ، قال: «النسور والعقبان والرخم» (المعاني الكبير 1/283)، وقد يبدو أن المحقق يحسن الظن كثيرا بابن قتيبة، كما سبق في تقليده إياه في التفريق بين عَظْم الشيء وعُظْمه، مع شذوذ ابن قتيبة في هذا القول، لكنه هنا لم يقلده، وتفسير ذلك أن نرجسية الإغراب هي المتحكم الخفي حين يتابع غيره وحين يخالفه، فكلما كانت الفكرة أكثر إشباعاً لنزعة الإغراب مال إليها وحاول تقويتها ولو بالوجه الضعيف أوالمتكلف أوالمظنون، بل بالتدليس أحياناً! كما في الأمر الثالث: إذْ أوهَمَ بإحالته إلى البغدادي أنه قال بقوله (وهو حصْر دلالة «الطير» في مثل هذا المقام في النسور والعقبان)، في حين أن البغدادي لم يكن يتحدث إلا عن معنى متداول بين الشعراء وهو «تَتَبُّع الطير للجيش الغازي»، وذكر شواهد هذا المعنى، ولم يتحدث أصلاً عن مسألة معنى «الطير» في هذا المقام! (انظر الخزانة 4/289). وقد يكون هوى الإغراب أذهله عن مراد البغدادي - مع وضوحه! - لا أنه تعمد التدليس. رابعاً: اخترع قَيْد «الاستدارة» في تفسير العكوف، في حين أن العكوف -كما تدل عليه الشواهد- هو الإقبال على الشيء والإقامة عليه مع المواظبة، سواء كان العاكفون حول الشيء أم أمامه أم بجانبه أم غير ذلك، لا علاقة لهيئة العكوف بالعكوف ذاته، وكأن المحقق رأى في كتب اللغة قولهم: «عكفوا حول الشيء: استداروا» (اللسان) ففهم أن العكوف ذاته يتضمن الاستدارة! وهذا من ظاهريته التي سبق لها نظائر، وهو أيضاً من خلطه بين المعنى الوضعي والمعنى السياقي، وسبق له نظائر أيضاً، فقَيْدُ الاستدارة هنا معنى سياقي جاء من لفظة «حَوْل»، فينبغي نسبته إلى السياق لا إلى الدلالة الوضعية الأصلية لِلّفظ كما فعل المحقق. ولو تنبه لسنّة العكوف في المساجد لما وقع في هذا الخلط؛ فهل قيْدُ الحَوْليّة شرط في الاعتكاف للعبادة؟! ومحمود شاكر كثيراً ما يخترع قيوداً في تفسيره ألفاظ النصوص التي يعلق عليها، وقد تتبّعت هذا في كل مواضع الاستدراك المعجمية -وبَلَغت السبعين- التي زعمها في تعليقاته على طبقات ابن سلام، حتى صرتُ لا أثق أبداً بتفسيراته واستدراكاته، وعلى القارئ لتعليقاته ومقالاته أن يكون على حذر من هذه التفسيرات فلا يأخذها إلا بعد تثبت ومراجعة. خامساً: كلامه في وصف القول الذي نسبه لثعلب بَلْطجة، ويصعب تفسير هذا العنف في الخطاب (كلام مظلم، خسيس، أضلّه الجاحظ!!) مع إمام جليل كثعلب؛ إمام في اللغة وإمام في السُنّة، كما يصعب تفسيره أيضا بالنظر إلى تفاهة المسألة التي لا تستدعي بعضا من هذا التجاوز على احتمال خطأ ثعلب؛ يصعب التفسير إلا إن ربطنا الموقف وكل المواقف المماثلة بعلة نفسية هي ما نحن بصدده! حينئذ يصبح كل شيء مفهوماً، فكأنّ سبب هذا الهيجان هو أن ثعلبا عكّر على الذات النرجسية صَفْو إغرابها واستدراكها إذْ حال بتفسيره «الطير» بالذباب بينها وبين نصها الذي تشعر بأنها أحق الناس بفهمه وتفسيره! فكان لابد من التأديب! لكنّ الطريف أن ثعلبا بريء من هذا القول براءة الذئب من دم يوسف! فالنص لابن سيده قاله في المحكم، فتعجل شاكر وفهم من ظاهر السياق في لسان العرب أن ثعلباً هو صاحبه، فتهوّر وقال ما قال. وكأنّ ابن سيده أخذ هذا القول من الجاحظ إذْ قال تعليقا على بيت أبي زبيد: «والطير لا تَلَغ وإنما يَلَغ الذباب، وجعَله من الطير، وهو وإن كان يطير فليس ذلك من أسمائه. فإذْ قد جاز أن يستعير له اسم الطائر جاز أن يستعير للطير ولْغ السباع فيجعل حَسْوها ولْغا»(الحيوان 3/319). ويدل على ذلك أنه بوّب في المخصص للذباب بقوله: «مِن الطيرِ الذُباب»(المخصص 8/182)، وهذه العبارة لا تُقال هكذا إلا إذا كان في تسمية الذباب طيراً خلاف أو شك، بدليل أنه لم يعبر بمثل هذه العبارة في أبواب الجنادب واليعاسيب والنحل، فيظهر أنه أخذ القول الذي علق به على بيت أبي زبيد من الجاحظ. ولو كان هنا مجال للقول بالضلال والإضلال -كما عبّر محمود شاكر !- فالأولى إلصاق الضلال بابن سيده؛ فالقول في كتابه «المحكم» ولا وجود له في كتابٍ لثعلب، ولم ينقله عالم عن ثعلب، ومن جهة أخرى فابن سيده معتزلي كالجاحظ فهو أولى أن يميل لقوله، خلافاً لثعلب السني السلفي الذي كان ينهى جلساءه عن ذكر الجاحظ ويقول إنه ليس بثقة ولا مأمون، وليس ثعلب ممن يقلد العلماء باللغة فضلاً عن رجل صَنْعتُه الأدب وليس من أهل اللغة. * أكاديمي متخصص في اللسانيات الثقافية - جامعة الطائف محمود شاكر