إذا كان في عصر سابق من المقبول أن يحصر الفقيه نفسه في حدود علم الفقه حينما كانت الحياة على طبيعتها الأولى، الطبيعي فيها يشكل المنظور الغالب، والمخترع يشكل الشيء النادر، فعصرنا هذا يختلف تماماً، فقد زادت مساحة المخترع والآلة.. الفقيه الحقيقي "الراسخ في الفقه" لديه من سعة النظر الشيء الكثير، ولديه من الحكمة - أيضًا - الشيء الكثير، لأنه يعاني عند ممارسة وظيفته أمرين اثنين - وأعني ب"يعاني" أي: يمارس، ولكن لفظ "يعاني" يدل على ما هو أعمق وأشد من الممارسة كما لا يخفى -، هذان الأمران اللذان يعانيهما الفقيه: أمرٌ عند نظره "التحرير"، وأمرٌ آخر عند حكمه وتنفيذه "التقرير". فهو حينما يتجه إلى دراسة مسألة - قد تكون عامة، أو خاصة، وقد تكون قديمة أو حديثة "نازلة" - فإنه ربما لا يكتفي بعلم الفقه الذي درَسَه وخَبَره، بل يحتاج إلى علوم أخرى تساعده على فهم واقع المسألة التي يدرسها، وهذا في جانب التحرير، ثم إنه إذا توصل إلى حكم المسألة فإنه يحتاج إلى إنزال هذا الحكم في الواقع، ومن هنا - أيضًا - يحتاج إلى علوم أخرى تدرس واقع الإنسان، وواقع المجتمع، وذلك يدخل في نطاق التقرير. ولذلك أعود وأقول: إن الفقيه المدرك فعلاً مجال الفقه على اتساعه، وتماسّه مع العلوم المختلفة؛ يكون مع الممارسة والتجربة من أوسع الناس عقلاً، ومن أحسنهم تأنيًا، ومن أفضلهم سياسة للواقع. وربما من يقرأ هذا الكلام يعتقد أنه حديث لا يعرفه علماؤنا المتقدِّمون، ولذلك أضع بين يديك نصًا للخطيب البغدادي وهو من علماء القرن الخامس الهجري، وهو يقرِّر ما هو أعمق مما ذكرتُ، فيقول في كتابه "الفقيه والمتفقه": "واعلم أنَّ العلوم كلها أبازير الفقه، وليس دون الفقه علم إلا وصاحبه يحتاج إلى دون ما يحتاج إليه الفقيه؛ لأن الفقيه يحتاج أن يتعلَّق بطرفٍ من معرفة كلِّ شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجدِّ والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم". وكلمة "أبازير": جمع "أبزار" التي هي جمع "بِزر" والأبزار والأبازير: التوابل. فالفقيه يحتاج إلى عددٍ من العلوم ليكون الحكم في المسألة صحيحًا ونافعًا، كما يحتاج الطعام إلى عدد من التوابل ليكون ناضجًا ولذيذًا. ثم إن عبارة الخطيب: "لأن الفقيه يحتاج أن يتعلَّق بطرفٍ من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة" عبارة مفتوحة، ومضمونها متجدِّد، فالفقيه منذ قرون ربما لا يحتاج إلى علوم متعددة ومختلفة كما يحتاج إليه فقيه هذا العصر، وليس يخفى أن المراد من اطلاع الفقيه على هذه العلوم ليس التخصص فيها ودراستها، وإنما المراد أن يكون لديه ثقافة عامة في هذه التخصصات، وأن يستعين بأهل الخبرة فيها حين تقريره لمسائل ذات صلة. على سبيل المثال، فإنه تطورت في عصرنا هذا العلوم الإنسانية التي يسميها بعضهم العلوم الاجتماعية، وهي تُعنى بدراسة الإنسان وواقعه: اجتماعيًا، ونفسيًا، واقتصاديًا، وسياسيًا وحتى تاريخيًا، فهذه العلوم تساعد على فهم الإنسان وفهم المجتمع، والمسألة التي يقرِّر فيها الفقيه الحكم؛ مسألة تتعلق بهذا الإنسان وبهذا المجتمع، ومن ثم فمن المهم أن يكون لدى الفقيه مفاتيح لفهم هذا الإنسان وواقعه، ولذلك أقول: إن الباحثين والدارسين وهم يقرِّرون أنَّ موضوع الفتوى: "الواقعة المسؤول عنها"؛ فإن الأدق والأعمق - في نظري - أن موضوع الفتوى هو هذا الإنسان؛ ذلك أنّ السائل حينما يسأل عن شيءٍ فإنه يسأل في كثير من الأحيان عن شيءٍ يؤثر عليه شخصيًا، وقد يمتد هذا التأثير إلى عمق نفسه، ونسيجه الداخلي، مما يتطلَّب أن يكون لعلم النفس مدخل في بعض المسائل. وقد يجوز أن يسأل عن شيء يؤثر على مجتمعه، ويشكل ظاهرة اجتماعية، وهذا يستدعي أن يكون لعلم الاجتماع حضور ورأي في المسألة. وحينما أقول إن على الفقيه أن يطَّلع ويباشر العلوم الإنسانية - ولو بنظر مجمل - فإنّ ذلك لا يلغي نظره الشخصي وملاحظته، فإن الذي يخالط المجتمع، ويجالس فئاته المختلفة؛ يستطيع أن يدرك كثيرًا من الظواهر المجتمعية، كما تتكون لديه خبرة في فهم نفسيات الناس، والعلوم الإنسانية في مجملها محصلة للتجربة الإنسانية في واقعها. وثَمّ علوم أخرى يحتاج الفقيه إلى أن يستعين بأهل الخبرة فيها؛ وإذا كان في عصر سابق من المقبول أن يحصر الفقيه نفسه في حدود علم الفقه حينما كانت الحياة على طبيعتها الأولى، الطبيعي فيها يشكل المنظور الغالب، والمخترع يشكل الشيء النادر، فعصرنا هذا يختلف تماماً، فقد زادت مساحة المخترع والآلة، وأخذ العلم بفروعه المختلفة يتطور ويشكل حياة الناس أو جزءًا كبيرًا منها، ولذلك كان على الفقيه ألا يكون معزولاً عن الحياة، وذلك حين يعزل نفسه عن العلوم المتنوعة التي تقفز قفزات هائلة.